البحرين اليوم – (وجوه الثورة)
من المسافات ذاتها التي قطعها عبدالهادي الخواجة؛ تكوَّنت أهم العلامات في ملامح نبيل رجب. في الأشهر الأولى للعام ٢٠١١م، وحينما جاء الاختبار الأكبر متدافعاً عليه؛ قدّم رجب إضافات خاصة تكاد تكون غير مسبوقة في طُرق مناجزة القمع، والاستخفاف بالتهديدات، جنباً إلى جنب عهده الرصين في الوفاء لمدرسته الأصيلة في حقوق الإنسان، والتي شاركَ في بنائها مع رفيق دربه المحكوم بالمؤبد.. عبدالهادي. في الظاهر، يبدو رجب واحدا من الأسماء القليلة التي اعتاد الناس على ذكرها، وتداول أخبارها، والحديث عن أحوالها؛ من غير ألقاب طويلة أو ديباجات إسميّة أو الوقوف عند التفاصيل التي قد يختلفون فيها معه. على شاكلة الرموز؛ ظلّ اسمه – من غير حواشي أو مقدِّمات -كافياً للحكاية عنه. وحين يطلّ بوجهه أو بصوته يكون واضحاً للجميع محتوى الكلام أو الفعل الذي يتجهَّز له. وقد أعطى هذا الطبع الاعتيادي نكهته الخاصة أنّ رجب كان معنيّاً بالناس وحقوقهم من غير حسابات حزبية أو أيديولوجية أو شخصية، وكان يرى أن أمانته التي يحملها – حتى الموت – هو الوفاء للدرب الذي بدأه مدافعا عن حقوق الإنسان، وكيف الحال إذا كان أهلُه وشعبه وأحبّ النّاس إليه؛ يعانون العذاب ويُعامَلون وكأنهم يُساقون في وضح النهار إلى أخدود الإبادة الكبرى.
لم يكتف رجب بالتمسُّك في خيار البقاء داخل البلاد، رغم القمع والاعتقال المرير. كان يصرُّ على أن يُعطي الناس الأمل بالفعل، أي الأمل الملموس والمسموع. كان يُسمعهم صوته، ويعمل حريصاً على إظهار وجهه بين الناس وهم يزاولون أشكال الاحتجاج والتظاهر. فَعلَ ذلك مراراً، ورسّخ بذلك طبائعَ جديدة في سلوك الحقوقيّ الذي أرساه الخواجة، إلا أن رجب كان معنيّاً – ولأن الجرائم أشدّ فظاعة – أن يُضفي سمات على عمله الحققوقي، ومنها جراءة إسقاط الخطوط الحمراء، والذّهاب إلى المحظورات وقلْع أضراسها، مع مزْج ذلك بخليطٍ من الابتسامة والمرح وإشاعته وسط الناس المحتجين. فعلَ ما يُشبه ذلك مع التظاهر في العاصمة المنامة، أو بتجواله خلال الاحتجاجات وفعاليات “اللحظة الحاسمة”، أو مع استمراره في حرْفنة توثيق الانتهاكات والتواصل مع كبرى المنظمات والجهات الدولية. هذه الشجاعة، غير المنقطعة، بدت للوهلة الأولى وكأنها ردّ فعلٍ طبيعي بالنسبة لرجل أضحى محميّاً بقائمة لا تُعدُّ من المنظمات الدولية ومن كبرى الحكومات الغربية! إلا أن إنزال الانتقام عليه، ومع الفشل في مساومته وحبْسه في المنطقة الرمادية؛ ثبُتَ أن أبا آدم كان مدفوعاً، وقبل أيّ شيء آخر، بإخلاصه للإنسان في البحرين، وما كان له أن يضع أيّ حسابات أو مراجعات وهو يوشك أن يجهر بمقارعة الظلم والانتصار للمظلومين.
كان يشدّد رجب على ضرورة ألا نترك البحرين للضياع ولا للضّباع. حرصُه الذي لم يتراجع عنه لحظةً هو ألا يكون المكان خالياً. في كلّ مرةٍ يوصي رجب بأن تبقى الساحات عامرة بالناس، وألا تخبو أصواتُ الحرية والعدالة. لم يترك فرصةً دون أن يُذكّر الجميع، من الكبار والصغار، بأن إخلاء المكان والتواري عن الساحات؛ هو خذلان لأؤلئك الذين يضحون لأجلنا جميعاً، وكلّ يوم، بإصرارهم على الشبّث في الساحات. تحلّى رجب بأخلاقية الإنسان الذي لا يُجيد خذلان الضحايا، وهو يعرف أنّ ناموس العمل الحقوقيّ ليس سوى إمْساك الضحايا من أيديهم والسّير معهم للمطالبة بالقصاص العادل. في الزوايا التي يتوزّع فيها عموم الناس، ومجتمع الضحايا، وشرائح المعارضين، وطرقات الاحتجاج الثائر.. يمكن أن نرى الأثر العميق لِلَمسة رجب وإنسانيته، ولحضوره الذي يملأ الاطمئنان داخل الأرواح، وكيف يُعطي الرجال والأطفال والنساء معنى صاعداً للمقاومة وبأبسط الأشياء: بتبادل الحديث وإطلاق النّكات، والتلويح بشارة النصر والتفنّن فيها، والإعجاب بأكل “الزلابية” وتوزيعها في سترة، والإبقاء على حضور رجب في “وسائل التواصل الاجتماعي”، ولو ظل محبوساً وراء القضبان.