:: وجوه الثورة :: محمد الساري.. الشهيد الذي جمع كل وجوه الثورة
البحرين اليوم – (وجوه الثورة)
قليليون هم الذين تتجمع في وجوههم كل وجوه الثورة، ومن بين هؤلاء الشهيد محمد الساري (٢٠١٧م)، الذي قضى شهيداً قبل بلوغه الثلاثين من عمره، حيث اختتم حكاية استثنائية بدأت في ٢٠١١م ليُتوَّج بإضافة لقب جديد إلى اسمه، حيث أصبح أحد الشهداء الفدائيين بعد أن قتلته القوات الخليفية مع أربعة آخرين كانوا يدافعون عن آية الله الشيخ عيسى قاسم في وجه الجحافل المستذئبة التي وصلت إلى عتبة منزله في مايو من العام ٢٠١٧. استنشق الشهيد الساري الشهادة مبكّرا وتكراراً، وعُرف بـ”الشهيد الحي” بعد إصابته في الصدر برصاص الجيش الخليفي في فبراير ٢٠١١ بعد أن كان من بين الشّبان الفاتحين لدوار اللؤلؤة في ذلك اليوم الذي علا فيه الشهيد رضا بوحميد. قضى الساري أياما في المستشفى وهو يكاد يفارق الحياة قبل أن تحدث المعجزة. قال في أكثر من مرة بعد ذلك بأنه شعرَ، لصيقاً، بمعنى أن تتحرّك الروح نحو السماء، وكان يظن وهو في العناية القصوى بأنه غادر الحياة بالفعل. رغم ذلك، وحين نجى الساري في المرة الأولى من الموت؛ ساقه الوحوش من السرير الأبيض إلى المعتقل، فيما جراحات رصاص الغدر لا تزال تسري في جسمه الهزيل، ليقضي عامين في السجن محاطاً بالعذابات والحرمان من العلاج.
حين أُفرج عن الساري في أبريل ٢٠١٣م كان أشبه ما يكون في أول أيام ولادته في زمن الثورة. قال بأن العذابات لم تزده إلا إصرارا وتمسكا بالحقوق. حكى عن رحلة التعذيب منذ أن اُختُطف من المستشفى ومرورا بالمحكمة العسكرية وحتى ظلامات السجون، إلا أن لسانه لم يكن يرتجف وهو يُغمض طرفا من عينيه تأثرا من آلام الإصابة بالرصاص والجراح المثخنة. وكان ارتماؤه في حضن الشيخ قاسم الذي زاره بعد الإفراج؛ أشبه ما يكون بموعد البيعة المتجددة والعهد المتواصل في الوفاء. سيكون مشهده وهو يغوص في تلك الأحضان وينتحب فيها؛ اللقطة الأولى لسجل التاريخ الذي سيُدوِّن هذه الأسطورة. حملَ الساري الآلام إلى أقاصي صدره الموجوع، وأراد أن يُثبت أن صوت الأوجاع لن تعلو على صوت الثورة، فعادَ إلى ميادينها ومنابرها وأحضان شهدائها، وحين توجهت العيون الوقحة ناحية “حضن الوطن” سارعَ إلى الاعتصام في ساحته النجلاء، ملبياً الوفاء الذي زرعه قطرة قطرة، ورابط هناك من غير أن يُعجزه الوجع أو تُرهبه رصاصة الجيش التي لاحت مرارا في “ساحة الفداء”. الشاب الذي رفض أن يقبّل الشيخ علي سلمان يده، وهو يزوره في المستشفى، كان يُخبرنا أن الدماء الغزيرة التي سالت منه، في ٢٠١١ و٢٠١٧م؛ هي فيض من الطهارة التي سرت في أنحائه حتى المثالة، حتى بدا غارقا في “العشق” وفي العطاء الكبير، ولا يُثنيه كل هذا الموت الأحمق عن الإقدام والفداء. ارتمى الساري في الساحة المتوجهة نحو ميدان اللؤلؤة، وأعاد الارتماء في ساحات لا تنتهي بقوافل من “الشهداء والمعتقلين والجرحى والمجاهدين الباحثين عن النصر”، كما قال في تأبين الفدائي الأول مصطفى حمدان، واختارت عزيمته أن يسكب آخر القطرات في ساحة الفداء عن معشوقه الكبير “حسين زمانه”، ليقول إن الثورة المنتصرة هي وجوه من التواضع والإرادة والثبات على الحق والبطولة.. ومن الشهادة المتكررة التي لا ينالها إلا ذو حظ عظيم.