:: وجوه الثورة :: رضا الغسرة.. أيقونة الشهداء ونموذج الثورة
البحرين اليوم – (وجوه الثورة)
أبرز ما يقترحه نموذج الشهيد رضا الغسرة (١٩٨٨ – ٢٠١٧م) هو أن الشهادة ليست خيارا يضطر إليه المرء في حال العجز، أو استنفاذ خيارات الحياة الممكنة. قصّة الشهادة التي ختم بها الغسرة مساره؛ تقول إنها خيار يجمع بين خاصّيتين هامتين: الأولى تتعلق باكتمال النموذج الثوري، والأخرى تتصل بالطابع التأسيسي للنموذج. بالنسبة للغسرة؛ فإن الميدان كان الجهة المفضّلة لديه، وكان يعتقد بأن كل النتاج النهائي الذي يمكن للثورة أن تصل إليه؛ لابد أن يبدأ من الميدان وينتهي إليه. يبدأ به تحصّنا، ويعود إليه استرشادا وتقوّيا.
اكتمل نموذج الغسرة بتحلّيه بمواصفات “الاستشهادي” الذي يصنع الحياة ويقهر القتلة على الدوام. يفعل ذلك وكأن يمارس درسا بطوليا غير منقطع. تحلّى بتلك الخصال التي تُذكّر الناس بأن صانع الميادين ليس إنسانا يفعل شيئا قابلا للنسيان بسرعة، كما أنه ليس فردا اختار أن يقدّم نفسه أضحية في الفراغ وبلا أثمان توازي تغيير المعادلات. تُبِرز سيرة الغسرة ذلك الجهدَ الدؤوب لجعل ميادين الثورة مختبرا للأفعال الجديدة، لتكون فسحة سانحة لإنقاص أشياء وتثمين أشياء أخرى. وبالنسبة إليه، فإن الأمور لا تقف عند حدود إثبات جدوى الميدان، أو أن كلّ الأشياء تتشكّل من الساحات الحامية فحسب، ولكن أيضا هناك اهتمام آخر يُكرُّس هذا الشاب وهو نقْض الأوهام التي تتربّص بالميدان، ومنها تلك تتخطّى الوقائع اليومية التي يرسمها الشّبان، لتُفبرك وقائع أخرى مستدعاة من تلك الأماكن الموبوءة بخزعبلات السياسة وطواحين الهراء. الشاب الذي لم يتجاوز العقد الثاني من عمره؛ لم يفعل شيئا علنيا في مناجزة السياسيين أو في الكسْر العنادي لتابوهات المنخرطين في أمنيات التفاوض الوديع مع سلطة الديكتاتور القاتل. كل ما فعله الغسرة هو أنّه مضى، دون تردد، في تثبيت قواعد الاشتباك في الميادين والساحات، وقدّم تجربته الخاصة في إرهاق القمع في قعر داره، وتنكيس وحشية المرتزقة وهو مقيّد بالسلاسل ومحاط بالقضبان. وفي كلّ ذلك، لم يعتن الغسرة بالحدود المعهودة، وما أوقفته في ابتكار الوسائل تحليلاتُ الرضوح للأمر الواقع، ولا محاذير ما وراء البحار.
الأيقونة الفريدة التي شكّلها الغسرة؛ رسمت ملامحَها ومحتواها بتدرّج تكاملي، وبتراكم عنيد في تجميع الخصال التي تأسر العقول والقلوب على حد سواء. لقد اختطف إعجاب العدو والصديق، القريب والبعيد، وهو بذلك سيكون محلّا دائما للاستعادة والتمجيد وتخليد الذكرى. لا يتوقف الأمر عند تجارب الهروب من السجن، والإصرار الإرادي على تحطيم الزنازن والتحرّر من السجان، مرة بعد أخرى، ولكن العبرة في سيرة الغسرة أيضا هو ذلك النموذج الثوري الذي يقُدِّم رؤية واضحة لما يجري في الواقع وليكفية الانقضاض عليه، وهو في ذلك يقترح في الميدان العملي طريقته الخاصة في مكافحة هذا الواقع وإذلاله وكأن هوايته المحببة هو أن يُريَ الجميع كيف أن الثورة ممكنة في كل الأوقات، وفي أحلك الظروف. تجمُّع هذه المواصفات في هذا الشاب “الأسطورة”؛ جعله ملتقى لأولئك الذين ينشدون “بؤرة جاذبة” تدفعهم نحو الالتحام بالخلاص من الواقع المفروض بقوّة الإرهاب، وهو حال جعلَ الغسرة مثالا أعلى ينمو في الجيل الحالي للبحرانيين مثلما ينمو إصرارهم على الانعتاق من أطواق آل خليفة. من المؤكد أن الكلام لن ينتهي عن الغسرة، وأن الأضواء لا تزال قاصرة عن اكتشاف سرّه العميق.