:: وجوه الثورة :: الشيخ عيسى قاسم.. فقيه الكلمة الذي أسقط آخر مشاريع الاستضعاف
البحرين اليوم – (وجوه الثورة)
أسقط الشيخ عيسى قاسم (مواليد ١٩٤١م) – بموقفه الثابت تجاه ثورة ١٤ فبراير – آخر التلقيّات السلبية تجاه المنهج العلمائي من الوضع الداخلي في البحرين. لم يخرج أبو سامي فقط على الحدود التي أراد النظام رسْمها في معالجة الثورة، حيث كان مشغّلو آل خليفة يعملون على تحويل الثورة إلى منعطف “اعتيادي” يُضاف إلى منعطفات التاريخ الاحتجاجي في البحرين الذي ولّت، ولكن الشيخ – أيضا – كوَّن على نحو متدرِّج المقامات والجرعات المطلوبة لحفظ “الوضع الثوري” لانطلاقة ١٤ فبراير، وتأمين زخمها البيّن وتجنيب الوقوع في “العودة إلى الوراء”. كان منبر جامع الإمام الصادق بالدّراز، حينها، مفصليّاً واستثنائياً، وأصبح خطاب الشيخ المحورَ الذي يتموضع تبعاً له الموقفُ الرسمي من جهة، والمدى الشعبي من جهة أخرى. ترفّع الشيخ عن تحويل هذا التمحور إلى عنوان “شخصاني” يدور حوله بوصفه خطيباً وفقيها وسياسيا من الطراز الأول، كما أنه – كما كان دائما – نأى عن الخطابات الاستعراضية وتموجاتها التكرارية التي تهدف لجذب الأضواء والإملاء على الأتباع. وقد أفلح، ببراعة، في إنتاج معجم لغوي ينازع القمع الحكومي، ويعاند بصارمة “موزونة” التعديات على الأرواح والمقدّسات والشعائر، واضطرّ في بعض الأحيان أن يخرج عن “الإطار السميك” الذي عُرف به، ولترك لغضبه العفوي، ولكن المقصود، أن يهزّ الأرجاء وساحات المعارضة والسلطة على حدّ سواء. فعلَ ذلك في الأوقات التي رأى فيها أن شرايين الثورة لا ينبغي أن تُترك بلا دماء جديدة من العنفوان والتبصير بأحقيتها و”شرعيتها” المؤكدة.
أدرك النظام مبكّرا أن مخططه لاستضعاف الشيخ وإخضاعه؛ لن يؤتي ثماره ولو فتح عليه كلّ مخزونه الأسود، وقد بدأ النظام – بتخطيط منْ المشغلين على الدوام – في تجميع مخطط الهجوم على الشيخ، وتحوّل الرجلُ الذي قبّلَ حمد عيسى جبهته يوماً؛ إلى هدف لأسوأ الأوصاف والاتهامات من وزراء آل خليفة، ومن الوزراء الأكثر قُبحاً على نحو خاص. التحريض المباشر الذي بدأ منذ عام ٢٠١١؛ كان ينبيء عن “لعبة خبيثة” لبناء قائمة الاتهامات التي ستتحوّل بدورها في يونيو ٢٠١٦ إلى لائحةِ “الدعوى المرفوعة” ضد الشيخ بسبب أداء فريضة الخمس. كان الوصول إلى هذا الانكشاف الكامل في المواجهة؛ “مفهوماً” مع ذهاب الشيخ إلى أبعد من “مناصَرة” الثورة، وإبداء الأبوية الفوقية تجاه شعبه. لقد قدّم الوضوحَ الأكمل في معالم “المشروع السياسي والديني” المناهض لمشروع النظام، وأفصحَ مرةً بعد أخرى، عن تلك الرؤى الثابتة التي توازي تطلعات الناس وتمدُّها بالنضوج، وكان تثبيت الشيخ قاسم لاستقلاليّة المنبر الديني عن هيمنة الخليفيين؛ العلامةَ الرمزية الأقوى التي أثارت حفيظة حمد شخصياً، وهو الذي أعلن بكلام صريح معركته ضد المنبر الديني الحرّ في رمضان ٢٠١٠م.
المؤكد أن الحاكم الخليفي يخوض “حرباً انتقامية” ضد الشيخ قاسم بعد أن منح منبره الديني “الخزّان الشرعي” للثورة، وليس “الغطاء الشرعي” فحسب. وما يُثير الفيجعة لدى حمد هو أن الشيخ قاسم ليس من أولئك الذين تورّطوا في محاضن “الأمراء”، وهو ليس مجبرا، بأي حال من الأحوال، على “ردّ الجميل” لدواوين آل خليفة، وهم عاجزون أن يفرضوا عليه “الولاء الأعمى” تحت تأثير قوّة الابتزاز و”المِنّة”. فليس في أيديهم ما يُدينه، وليس عنده لهم أيّ شيء يلزمه أن يُقابلهم به بـ”الحُسنى”.
في حضوره الحاد كما في إقامته الجبرية؛ شكّل الشيخ قاسم الدوائرَ المتصاعدة التي تخنق النظام وتجعله أصغر وأكثر حقارة من اليوم الذي سبق. القوات المتوحشة التي سفكت الدماء على عتبة منزله في مايو ٢٠١٧م؛ لم تنجح في إجباره على الاستسلام والخروج إلى الناس وإلقاء كلمته الأخيرة ليعودوا إلى منازلهم كما أراد آل سعود. لم ينالوا “حرفاً” في بيان الهزيمة، ولا إشارة لإعلان الخضوع. لقد أعجزهم بصموده بعد أن أراد الخليفيون أن يُرُونه أنهم “قادرون” على ارتكاب “المجزرة” على مسامعه، وبما لا حدود له من الإجرام. فماذا عسى أن يفعلوا أكثر؟! ربّما يكون الخليفيون ماضون – حتى النهاية – في إتمام الجريمة النكراء، وتفخيخ “الموت البطيء” داخل منزل الشيخ المحاصر، ولكنهم يعلمون أكثر من غيرهم أن “أي مكروه” يُصيبه لن ينال من قامته، ولن يغيّر من موقفه غير المهادن، وهو الصّادقُ دوماً في تفضيل أن يحتضن كفنه الطاهر على أن يرتدي جلباب آل خليفة المدنّس بالجرائم والمخازي.