:: وجوه الثورة :: الشهيد عيسى قمبر.. الجرح الأكبر منذ التسعينات
البحرين اليوم – (وجوه الثورة)
لأكثر من سبب، سيظل الشهيد عيسى قمبر (١٩٩٦م) وجها من وجوه الثورة في البحرين، كما هو الجرح الأكبر النازف منها منذ عقد التسعينات من القرن الماضي. لأكثر من عقدين؛ لم تفلح الأحداث وتبدلاتها في طي صفحةٍ كان فيها هذا الشاب رمزا من الرموز الاستثنائيين، ليس لأنه خرج من بلدة “رايات العز”، أو أنه استوى مبكرا على عرش “القصاص” من القتلة، ولكن أيضا لأن الشاب – الذي لم يتجاوز سن الثلاثين – وطّد جيدا صلته بالتاريخ النضالي لهذه البلاد وعمَّر فيها، بعد استشهاده، تلك الروح التي سرعان ما أينعت أكثر من قمبر، وأعادت روحا تُشبه ميلاد عيسى المسيح. لا يبدو في الأمر مبالغة كثيرة حينما نسترجع المنعطف غير المعهود الذي ظهر فيه عيسى قمبر في حقبة التسعينات وهو يكافح من أجل كرامة هذه البلاد. كان حُكم الإعدام الذي نُفّذ بحق قمبر – وهو الأول في تاريخ البحرين الحديث – تحدياً للشعار الذي كان يملأ جدران المنازل في تلك الفترة: “قسما قسما.. عيسى قمبر إنْ أعدِم تجري أنهار من دم”، والحقّ أن تلك الأنهار ما فتأت تتدفق من جذور هذه البلاد، ومن الينابيع التي كان يظن كثيرون أنها رُدمت إلى الأبد.
كان قمبر شجاعاً من غير ادعاء أو استعراضات فارغة. تترعرع فيه روح المبادرة التي تقوم على التخطيط والعزيمة على انتزاع الحق، وردع الباطل، ولو كان في ذلك الأثمان الباهظة. في قضية مقتل المجرم السعيدي، لم يكن الشهيد قمبر بإزاء المراوغة. فالشهيد كان بمنأى عن الاعتقال، وكان خارج البلاد حينما هاجمت المرتزقة منازل نويدرات وأفرغتها من الشبان والرجال. ولكنه آثر أن يكون رجلا في شجاعته، وألا يكون بعيداً عن الحدث وآثاره الجَلل. عاد الشهيد إلى البحرين وهو يعلم أنّ الموت ينتظره على الجسر بين السعودية والبحرين، وحينما دخل غرف الموت والتحقيق قلبَ الطاولة على المعذبين ورمى على وجوههم الصاعقة، وقال لهم بأن قتل السعيدي يتحمّله هو لا غيره، وأن كل المعتقلين الآخرين هم أبرياء من هذه التهمة التي لم يكن ليردّها أو يستنكف منها، وحتى حين نطق القاضي الخليفي بحكم الإعدام، وهو الحكم الذي أدخل في قلب الشهيد قمبر فرحاً لم يتضاءل قدرا واحدا إلى حين تنفيذ الإعدام في مارس ١٩٩٦م. في الفترة الفاصلة بين اعتقال قمبر ولحين إعدامه؛ كان الشهيد يفرش في السجن سيرة ذلك الرجل الذي تلمع منه وثاقة المصير الحتمي بزوال النظام القاتل، وكان يصر على أن يزرع في أجيال التسعينات – التي توالت على السجون – تلك الإرادة الشمّاء التي لا تركع أو تستسلم لذلك المصير الوهمي الذي يلوح به القتلة بأحكام الإعدام أو بأحكام السجن المطولة. من الضروري، بالنسبة للشهيد قمبر، ألا يذرف الواثق بأمره الانحناءَ أمام الجلاد، وأن تكون عينه غير آبهة للظلام الذي يُخيّل للكثيرين، قسراً، بأنه القدر المحتوم الذي لا ضياء بعده.
أعطى الشهيد قمبر درسا في وضوح الرؤية. ليس فقط في ابتكار وسائل “القصاص” من القتلة، ولكن أيضا في تحويل أسلحة الجلادين إلى أدوات لتلميع الروح وتثويرها بالإرادة إلى آخر لحظات الحياة. لم تكن جرأة موقوتة بفعل “القصاص”، وما كانت روحه الثائرة مقصورة خارج قيود السجن وحكم الموت الظالم. لقد تعاظمت تلك الروح لدى قمبر، وبدرجات لا حدود لها، حينما كان محاطا بالقيود والسلاسل، وحينما أنزل عليه الخليفيون حكم الموت. كانت ابتسامته التي لا تفارق ثغره إشعارا بذلك الدرس الذي أراده قمبر وصيةً حاضرة لدى كل الأجيال.