:: وجوه الثورة :: الحاج جواد برويز.. السبعيني الذي ناضل عقودا من أجل الكرامة وحرية الناس
البحرين اليوم – (وجوه الثورة)
الحاج محمد حسن جواد برويز، وهو يتخطى الآن سنّ السبعين؛ لا يجد فيما تبقّى من العمر ما يستدعي النظر بثقلٍ إلى الوراء، وإعادة حساب الزمن، وترديد العبارات التي تهطل على المرء في تلك اللحظات التي يبدو فيها كلّ شيء بائساً وشديد العتمة. الأمراض التي تسري في كل زوايا جسمه، والإنهاك الذي أفْقده القدرة على المشي واضطرّه للتحرك بكرسيّ رباعي الأقدام؛ لم يتسلل جزءٌ منها إلى روحه التي لا تزال تسترسل في النضال من خلف القضبان، وكأن قرابة العقود الأربعة التي رأى فيها الظلمَ والانتقام، عليه وعلى أبنائه، كانت اختباراً بسيطا لحمل العبء الأكبر الذي تجمّع عليه بعد مارس ٢٠١١م.
لم يكن مفاجئا للحاج برويز أن يكون مستهدفاً. لقد تذوق طعمَ هذه الكلمة منذ الثمانينات، ولوحق في لقمة العيش داخل بلاده التي حوّلها العتوب إلى منتجع للأغراب، وزنازنَ مفتوحةٍ لسكانها الأصليين. في كلّ مرة كان تسنح له الفرصة لكي يُناصر مظلوماً؛ كان يُقدِّم خطواته إلى الأمام دون تردّد. يفعل ذلك وهو على يقين بأنّ قرابته من سميرة رجب، المقرَّبة من آل خليفة، لن تنفع في إبعاد الجلادين عنه، وأنّ سياطا غزيرةً من الحقد لن تمنع أمير الجلادين، ناصر حمد، عن تمريرها على جسد الحاج المريض، ومن غير أن يقشعر في بدن المراهق وترُ الخجلِ طرفةً واحدةً وهو يعتدي على رجل في عمر الأجداد. ولكن، الرجل الذي يرى في “السجن نعمة من نعم الله” العظيمة في حياته؛ ما كان لكل هذا الزّبد أن يطمسَ اطمئنانه بأنه اختار “طريق الحق”، وهو ذاته الرجل الذي توقّد أكثر – رغم الجراحات والعذابات التي تخرّ لها الأوتاد – حين نطقَ القاضي الخليفي بسجنه ١٥ سنة، رفقة بقية الرموز وأقمار الثورة المضحين.
سرُّ ذلك أنّ الحاج برويز كان صادقا في كل سيرته التي يعرفها الناس أو التي لا يعرفونها حتى اليوم. كانوا يميّزونه في كل التظاهرات والاعتصامات بقامته الفارعة وسنّه الذي يفوق أغلب المشاركين. حرصَ على أن يكون مدافعا عن كل المعتقلين وسجناء الرأي. لم يكن ينتمي لأي حزب أو مجموعة حقوقية، كان مستقلا مثل استقلال النجوم عن بعضها البعض. يكفي أن يكون هناك مظلوماً لكي يكون الحاج حاضرا لنصرته، ورفع صورته، ولو كان لا يعرفه من قبل. بحضوره الدائم في الساحات؛ كان يُسجّل لوناً من النشاط الحقوقي الذي يرفع راية العدل ومناهضة الظلم، لأجل الحقوق وليس لأجل غايات أخرى. لم يكن للسنّ اعتبار هنا، وكان اندفاعه المخلص يحكي عن تلك الروح التي أخبرَ عن لونها يوماً حين قال بأنه “خرجَ من منزله طالبا الشهادة من أجل الشعب والحرية والكرامة”. هي روحٌ متواضعة، ولكنها جسورة، تتقدّم الصفوف حين يتراءى للناس أن هناك وحشاً قاتلاً وشيكاً، فيمدّ يده نحو الأمام ويزيح الخوفَ ويكون في وجه المدفع. يندفع لحمْل مكبّرات الصوت التي تردّد الشعارات، ويرفع صور السجناء وعبارات المطالبة بإطلاق سراحهم، ويذهب إلى حدود التماس المشتعلة التي رسمتها ثورة ١٤ فبراير في منطقة سترة، ويُكرّر فيما بعد، وهو في محنة الطوامير الأليمة، شغفَه السماويّ بدوار اللؤلؤة التي يتمنّى أن يُمدُّ في عمره ليُشارك في إعادة بنائه، وبيديه المتعبتين. فـ”الشوارع”، كما قال، يجب أن تبقى مضيئةً بالناس، ويجب ألا يكون للنظام “الاستقرار” الذي يريد مادام ينكّل بالشعب ويهتك الحرمات.
في “زيارة الوصية” قبل أشهر، أوْدعَ الحاج برويز أهلَه موقفه التي لا تزحزح عنه. قال: “سأظل مطالبا بحقوق الناس حتى آخر نفس، ولن أتنازل عن حق الناس”. أفصح عن الآمال والآلام وسط العواطف المؤلمة التي انهمرت من أفراد عائلته وهي تراه، بعد حرمان من الزيارة يزيد عن ٨ أشهر، وكيف أضحى مليئاً بالأسى. أخبرهم المزيدَ عمّا لا يعرفونه عن معاناته مع صحبه من الرموز، وحكى عن فظاعة الانتقام الذي يعانون منه منذ تسعة أشهر ويزيد. أخبرهم عن الأنّات التي تحرمه من نوم هانيء، وتحبسُ عنه الراحةَ في الليل والنهار. أعطاهم وثيقةَ العذاب، ولكن مع ميثاق أكيدٍ لا تراجع عنه ولا استسلام. فهو حين يأخذ الله أمانته؛ سيكون في أحسن حالات القُرب من الله، والرضا بما قالَ وفعلَ، وما سكاكينُ الوجعِ إلا لتطهير الذنوب وتمحيص نفسه التي يراها راضيةً كلّ الرضا بأن تيسّر لها الانقطاع للابتهال والتأليف ومصاحبة خيرة الأخيار.