مسرحية داميةُ أم إنقلاب حقيقي؟
تابع العالم وباهتمام بالغ أخبار الإنقلاب العسكري الفاشل الذي وقع في تركيا مساء يوم أمس الجمعة. وانقسم العالم بين مرحّب بالإنقلاب ومندّد به. فمعظم الدول الديمقراطية دانت المحاولة الإنقلابية بالرغم من تحفظها على سياسات الحكومة التركية خارجيا وداخليا، فيما رحّبت به عدد من شعوب المنطقة التي ذاقت الويلات على أيدي الجماعات الإرهابية التي قدّمت لها تركيا تسهيلات لوجستية واسعة طوال السنوات القليلة الماضية. وعبّرت كذلك عن سعادتها بالإنقلاب القوى العلمانية في المنطقة وكذلك المعادين لتنظيم الأخوان المسلمين الذي يعتبر أردوغان أحد أتباعه.
ومع انجلاء الغبرة صباح هذا اليوم أصيب المعوّلون على سقوط أردوغان بالإحباط وبدأوا بوصف الإنقلاب بالمسرحية التي أخرجها أردوغان بنفسه من أجل تصفية خصومه السياسيين والعسكريين. فهل ما حصل مسرحية أم انقلاب حقيقي؟
بداية لابد من الإشارة إلى أن تاريخ تركيا حافل بالإنقلابات العسكرية، وكان آخرها الإنقلاب الذي قاده كنعان آفرين في العام 1980 وبدعم مباشر من الإدارة الأمريكية.
لوحظ على الإنقلاب الجديد أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تدنه البارحة بالرغم من أنه مخالف للقيم الديمقراطية الأمريكية التي ترفض تغيير أنظمة الحكم الديمقراطية بالقوة بل عبر الانتقال السلمي للسلطة، لكن البيت الابيض اكتفى بالقول بأنه يتابع تطورات الأوضاع عن كثب. أما وزير الخارجية الأمريكية جون كيري فدعا إلى حل الأزمة سلميا! مواقف تشير إلى دور أمريكي في هذا الإنقلاب.
السعودية وهي الحليف الظاهري الآخر لأردوغان لم تستطع كتمان فرحتها بالإنقلاب من خلال تغطية قناة العربية التي كانت متحيزة لصالح الإنقلابيين فيما كانت شبكة الجزيرة القطرية تغطي الأحداث لصالح أردوغان. الموقف السعودي يمكن تفسيره بعدائها للأخوان المسلمين وصعوبة وضع تركيا أردوغان تحت عباءة آل سعود، فيما يمكنها ذلك عبر حكومة العسكر فيما لو نجح الإنقلاب. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الإدارة الأمريكية والسلطات السعودية أصيبتا بخيبة أمل كبيرة نتيجة للتقارب التركي الأخير مع سوريا وروسيا، وهو التقارب الذي يطيح بكافة آمال السعودية في إسقاط النظام السوري.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن قادة الإنقلاب العسكري يمثلون الخط الثاني في المؤسسة العسكرية التي احكم أردوغان قبضته عليها طوال السنوات الماضية. فقائد الإنقلاب العقيد محرم كوس يشغل منصب مستشار قانوني لدى رئيس هيئة الأركان. فمثل هؤلاء القادة الثانويين لا يحتاج أردوغان لصياغة مسرحية إنقلابية للإطاحة بهم، بل يمكنه إزاحتهم بكل يسر.
كانت حصيلة الإنقلاب العسكري 161 قتيلا واعتقال 754 شخصا ولجوء ثمانية قادة عسكريين الى اليونان. وهي أرقام تدحض نظرية المؤامرة التي روّج لها البعض الذي كان يعوّل على سقوط أردوغان، ولكنه أصيب بإحباط أفقده صوابه صباح هذا اليوم ليعتبر ما حصل مؤامرة وضعها اردوغان لتصفية مناوئيه في المؤسسة العسكري، وهو بذلك يضفي هالة جديدة على اردوغان ويرفع من شأنه.
وهنا لابد من الإشارة إلى أن أردوغان أساء كثيرا لشعوب المنطقة ولعب دورا كبيرا في تنامي الموجة الإرهابية في العالم، إلا أن هذا لا يعني الترحيب بإسقاطه عبر وسائل غير مشروعة.
فأردوغان لم يستولِ على السلطة بالقوة بل حاز على ثقة الناخب التركي الذي كافأه على إنجازاته في الداخل وغض النظر عن إساءاته لشعوب المنطقة وفي طليعتها الشعبان السوري والعراقي.
فالطريق لإسقاط أردوغان يتم عبر تغيير قناعات الناخب التركي وليس عبر القوة العسكرية غير المشروع، ومما لا شك فيه ان الناخب التركي لمس الآثار الإقتصادية الإيجابية لسياسات أردوغان طوال سنوات حكمه وهو الدافع الذي يقف وراء تجديد الثقة به ووراء افشال الإنقلاب. وفي ذلك درس لحكومات المنطقة التي يجب عليها إرضاء شعوبها في المقام الأول وقبل إرضاء حلفائها في الخارج.
وبغض النظر عن كل ذلك، فإن الخير فيما وقع، فتركيا بعد هذا الإنقلاب غير تركيا بعد، فأردوغان الذي تفرغ لتدمير دول المنطقة بعد أن ظن أنه أحكم قبضته على الداخل؛ بانت هشاشة قبضته، وسيعيد هيكلة الدولة والمؤسسة العسكرية وبالشكل الذي سيجعله بعيدا عن التدخل في شؤون دول المنطقة وخاصة سوريا والعراق، وبعد أن أدرك ولو متأخرا بأن إسقاط النظام السوري أمر مستحيل وستكون له انعكاسات سلبية عليه.
الخلاصة، إن إنقلاب تركيا ليس مسرحية دامية، ولا حلقة من مسلسل تركي جديد يحمل عنوان ( الإنقلاب الممنوع)، بل هو إنقلاب حقيقي مدعوم خارجياً.