محاولات آل خليفة في مواجهة ذكرى “عيد الشهداء”: إسقاط المشروع وصاحبه
المنامة – البحرين اليوم
في “عيد الشهداء” الثالث والعشرين؛ حرص المواطنون في البحرين على توسيع نطاق وأشكال الفعاليات والتظاهرات والاحتجاجات الخاصة بهذه الذكرى، في الوقت الذي لم تتوقف المحاولات الخليفية من أجل تطويق هذه الذكرى، والقضاء على حضورها في الوجدان وفي الممارسات اليومية، وهي محاولات بدأت منذ سنوات وبوسائل مختلفة.
في هذا العام ٢٠١٧م؛ يجد المواطنون البحرانيون أن هناك أكثر من تحدّ أمامهم وهم يوشكون على إنهاء عام يُعدّ واحدا من أكثر الأعوام دموية وقمعا، ولعل أبرز هذه التحديات هي القدرة على حمل أمانة قافلة الشهداء التي يمتد حضورها لدى أغلبية الجيل الحاضر مع انطلاق انتفاضة الكرامة في ديسمبر ١٩٩٤م، والتي دشنّت القافلة بعد أن أصبح الشهيدان هاني خميس وهاني الوسطي عنوانا لها بعد أن تُوّج يوم شهادتهما في ١٧ ديسمبر من ذلك العام؛ ليكون يوما لإحياء ذكرى الشهداء ومناسبة وطنية لتسجيل مواقف الوفاء لهم. سرعان ما ووجه ذلك، وبعد العام ٢٠٠٢م، بسلسلة من الإجراءات المضادة، والتي أُريد منها تذويب هذا التاريخ، ونزعه من الوعي الشعبي والثوري العام، ولاسيما لدى جيل ما بعد الميثاق (٢٠٠١م)، والذي كان يُخطَّط له أن يندمج حدّ الذوبان في الأجواء “المهجَّنة” التي فبركها ما يُسمى “المشروع الإصلاحي”، حيث جرى حينئذ العمل على إدماج الناس في الاحتفالات الخليفية بعيد “الجلوس”، وتكريس التعاطي مع تاريخ ١٧ ديسمبر على أنه “عيد وطني” جامع لكل المواطنين.
لفترة من الوقت، بدا أن المشروع الخليفي حقق قدرا من النجاح، ولكن في العام ٢٠٠٣م برزت “اللجنة الوطنية للشهداء وضحايا التعذيب” لتكون واحدة من الأدوات الأساسيّة في إشعاع الضوء على ملف الشهداء والضحايا، وإعادة جدولة الاهتمامات لناحية هذا الملف وبرؤية موجَّهة تقوم على ملاحقة الجلادين والقتلة والقصاص منهم. وسرعان ما توسّع نطاق عمل اللجنة – رغم الصعوبات ومحاولات العرقلة غير القليلة – وأصبحت التظاهرة المركزية قرب جامع رأس رمان؛ الفعالية الشعبية الأبرز التي شكلت مع الوقت إجهاضا جذرياً للمشروع الخليفي الرامي لإسقاط ذكرى شهداء ١٧ ديسمبر. ورغم أن اللجنة المذكورة لم يتيسّر لها الاستمرار في العمل، إلا أن الأسس الموضوعية والرؤى الخطابية والشعارات الثورية التي رُفعت في تظاهراتها وبرامج عملها؛ كانت واحدة من أهم العلامات التي عمّقت الوعي العام بعيد الشهداء، وهو الوعي الذي كان له الفضل تالياً في إسقاط المحاولات الأخرى المتتالية لإسقاط هذه الذكرى.
في هذا العام، ولكي يُخفي الخليفيون مقاطعة غالبية المواطنين لاحتفالاتهم بما يُسمى بعيد “الجلوس”؛ أطلقوا ٥ هاش تاغات على موقع (تويتر) تُظهر صورة تعبيرية (إيموجي) لحمد عيسى، وهي صفقة كلفت – بحسب خبراء إلكترونيين – ٥ ملايين دولار من ميزانية. وكان واضحاً أن الهدف من هذه الحملة الترويجية هو التعويض عن الرفض الشعبي الواسع للاحتفالات الرسمية، ومحاولة الإيحاء – إلكترونيا على الأقل – بأن هناك “احتفالا” شعبيا بالفعل مع آل خليفة. إلا أن أغراض هذه الحملة لم تحقق أيضا نجاحاً حقيقياً، حيث فعّل النشطاء هاش تاغات موازية وأخرى مناوئة للهاش تاغات الرسمية، ومنها هاش تاغ “عيدالشهداء ٢٣”، كما أطلق البعض هاشتاغ “يسقط حمد” بصحبة هاش تاغ “البحرين” ليكون الشعار الثوري مقرونا بصورة الحاكم الخليفي، وهو ما أعطى “مشهدية” أخرى للموقف الشعبي ضد حمد، وبرفقة الدعاية التوتيرية.
لم تكن محاولات النظام لإلغاء أو تغيير تاريخ الاحتفال الشعبي بعيد الشهداء؛ جديدة، كما أنها أخذت أكثر من طريقة. فقبل المنع العسكري لانطلاق التظاهرة المركزية الخاصة بالمناسبة في العام ٢٠٠٩م؛ جرت مساع عديدة لمنع تنظيم التظاهرة، وبواسطات من بعض السياسيين وكتّاب الصحافة، وكانت جمعية (الوفاق) وشخصيات أخرى اقترحت، علناً، تواريخ بديلة عن تاريخ ١٧ ديسمبر، مثل شهر مارس أو أبريل، لتكون تاريخا للاحتفاء بالشهداء، وبزعم أن أعدادا أكبر من شهداء التسعينات سقطوا في هذه الفترة. وكان الهدف الأساس من هذه المساعي، بشكل أو بآخر، هو ضمان “دون إزعاج” الاحتفالات الخليفية التي تتزامن مع هذا اليوم، وخصوصا أن الخليفيين كانوا – حينها – حريصين على إظهار احتفالاتهم وكأنها “أعياد وطنية”، وذلك من خلال الدعايات الواسعة والكليشيهات الإعلانية، وعبر فتح المجالس الخليفية لاستقبال المهنئين. وقد كانت هذه المجالس – قبل الثورة – تستقبل السياسيين والمعارضين أيضا.
إلا أن الإصرار الشعبي كان أقوى من كل هذه المحاولات، رغم ظهور المعارضين لها وكأنهم “أقلية”، ويُتهمون بـ”التطرف”. رغم ذلك، ظل المواطنون يؤكدون على إحياء هذه الذكرى وإعلاء اسم الشهداء في وجه الاحتفالات الرسمية، كما شدّدت قيادات الممانعة آنذاك على المحافظة على وهج هذه الذكرى، وهو ما ظهر بشكل واضح مع اختراق الرموز والقيادات للحصار العسكري الذي فرضته القوات الخليفية في ١٧ ديسمبر ٢٠٠٩م على موقع انطلاق التظاهرة المركزية بالقرب من جامع رأس رمان. والجدير بالذكر أن هذا الحصار أدى في ذلك اليوم إلى توسُّع الاشتباكات حتى وقت متأخر من المساء، وامتدت لتشمل مناطق مختلفة من البلاد، فيما كان مؤشرا ميدانيا على أن هذا اليوم تغلغل بدرجات عميقة في الوجدان العام، ولم يعد بالإمكان انتزاعه أو حرف الناس عنه. هذا الاندفاع الميداني أسّس فيما بعد لتوسيع نطاق الاحتجاج المُصاحب لعيد الشهداء، وبعد أن كان يتمركز فقط في “رأس رمان”، وفي بعض الندوات الخاصة بالشهداء. فمع الوقت؛ أخذ هذا الإحياء أشكالا متنوعة، شملت الاحتجاج الميداني، والتظاهرات الغاضبة، وطبع صور الشهداء في الجدران، ثم أخذت نمطا أشد من المواجهات الصاخبة ضد قوات النظام الخليفي، وخاصة بعد ثورة ١٤ فبراير، حيث أضافت المفاصلة النهائية مع النظام والدعوة الثابتة لإسقاط حمد؛ تعميقاً أكثر للرفض الشعبي لكل أشكال المشاركة مع احتفالات النظام بأعياده غير الوطنية، وبات النبذ والإزدراء يواجَه به كل منْ يشارك في هذه الاحتفالات ويتوافد على مجالس الخليفيين للتهنئة.
كان واضحا أن إحياء عيد الشهداء، وعلى مدى ٢٣ عاما، سببٌ جدي في إزعاج آل خليفة، وهو ما يُفسِّر عدم توقف محاولات التشويه على هذه الذكرى، وبعد أن فشلت المحاولات السابقة في تغيير تاريخ الاحتفال الشعبي بها. ولعل أكثر المحاولات “فحشا وخبثا” هو إعلان الخليفيين احتفالهم الخاص بقتلى المرتزقة والجنود في البحرين واليمن، واعتبار يوم ١٧ ديسمبر يوما لـ”الشهيد”، وهو إعلان تعمّد حمد عيسى تنصيبه في العام ٢٠١٥م في ذات اليوم الذي يحتفل فيه البحرانيون بذكرى شهدائهم، بغرض التشويش على هذه الذكرى، ولخلط الأوراق على المتابعين من خارج المشهد الداخلي، كما أن وراء ذلك رسالة “وحشيّة” النظام، ومفادها أن الأمر لا يقتصر على مرسوم بقانون (٥٦)، الذي صدر في ٢٠٠٢ لحماية القتلة والجلادين من القصاص العادل، بل إن “التوحش” يصل لحدود أن يُحتفى بالجنود والمرتزقة الذين يُفترض أنهم ضالعون، شخصيا أو رمزيا، في قتل المواطنين. هذا “الفُحش” في الوحشية حرص حمد على إبرازها كاملة مع توليه شخصيا تدشين “يوم الشهيد” الخليفي في العام ٢٠١٥، وباستعراض عسكري. وقد أوعز الخليفيون للمؤسسات الحكومية الاحتفال بهذا اليوم والترويج له بشكل مكثف، وهو ما قامت به هذا العام بعض الوزارات – خاصة وزارة التربية – والبرلمان الخليفي، وتم إصدار البيان وتنظيم الفعاليات. كما برز الجلاد ناصر حمد في سياق هذه الحملة هذا العام، ونشرت حساباته في مواقع التواصل الاجتماعي فيديوهات تمجّد في قتلى الخليفيين، إمعانا في التضليل والتخريب على إحياء البحرانيين لذكرى الشهداء.
في المقابل، كان الرد الشعبي مدركا لهذه “الحروب” الرامية لتزييف الوعي وتضليل الرأي العام. فقد امتلأت جدران المنازل بصور الشهداء، وبالعبارات التي تحتفي بهم وتمجّد ذكراهم. وطُبعت بوسترات للشهداء “المقاومين” ليكون المشهد الموازي لصور قتلى مرتزقة الخليفيين في البحرين واليمن. كما توسّعت فعالية “حمد تحت الأقدام”، وخُطّ اسمه على الشوارع ودِست صوره بالأقدام، ردا صورته التي فُرضت على كل منْ يكتب اسم البحرين في موقع تويتر. فيما شكلت التظاهرات التي خرجت في مناطق البلاد؛ تأكيدا على إحياء شهداء البحرين هو جزء لا يتجزأ من “رفض حكم الخليفيين”.