حمد عيسى والشيخ عيسى: بين قبلتين
البحرين اليوم – (خاص)
لأسباب كثيرة، يمكن أن تُحمْل تصرفات “المجانين” وأصحاب “المواقف الظريفة”؛ بكثير من الجدية والتحليل المنطقي. فالجنون ليس من معانيه فقط ذهاب العقل، واستحالة المرء إلى خانة “الذين ليس عليهم حرج”. فهناك جنون “منطقي”، أو تصرّفات جنوبية معقولة، ومحسوبة وفق الرغبات العقلية. للتوضيح مثلا، فإن الحاكم الخليفي #حمد_عيسى ليس مجنونا بالمعنى اللغوي أو “الفقهي”، ولكنه وبلا شك مُصنَّف في دائرة “المجانين” الذين اختاروا الطرق الخاطئة والخيارات المدمِّرة في إدارة الأمور والأزمات، لأنها كانت سبباً في كلّ ما يُصبّ عليه اليوم من لعنات ودعوات بالسقوط وأدعية بـ”الرحيل”. وفي مثل هذه الحالات، فإن المجنون يتصرّف بناءا على “لا وعيه” أو من مخزون “المكبوتات” التي تتحفّز بين فترة وأخرى للظهور. ومن المؤكد أن حمد عيسى، وبعد مرور هذه السنوات من الثورة؛ يجد نفسه مدفوعا لإظهار خفاياه ومكبوتاته، ولاسيما وهو يتجرّع، سنة بعد أخرى، مرارة الخيار الدموي الذي يتمرّغ فيه من غير أن يعرف طريقاً سويّاً للخروج منه.
في المشاهد المؤثرة، ومن الزاوية السيكولوجية تحديدا؛ فإنّ انفجارا غير عادي استولى على حمد وهو يرى الشيخ عيسى قاسم يذهب في طريق بعيدة عن المسالك التي ظنّ أنها ستُحاصِره (أي الشيخ) بعد أن طبع حمد قبلته الأولى على جبين الشيخ بتاريخ ١٥ ديسمبر ٢٠٠٩م؛ وهو يزوره في المستشفى العسكري. فمن تقاليد المجانين بالعظمة، على سبيل المثال، أنهم يقدِّمون العطايا، ويُظهرون المشاعر الإيجابيّة، لتكون سلاسلَ تُقيّد الآخرين، وتجرّهم إليهم، وتضعهم تحت الرهان والولاء العاجل أو الآجل. بعد نحو عامين، اكتشف حمد سوء ظنونه، وظهرَ له غباءُ تقديراته حينما تيقّن بأن #الشيخ_قاسم ليس من هذا المعدن، وأن القُبَل والمجاملات لا تأثير لها في صناعة المواقف والولاءات بالنسبة لرجل أكدت سيرته بأن الدّنيا لا تساوي عنده جناح بعوضة.
مرارة ذلك ازدادت أكثر مع سنوات الثورة المتتالية، وحيث كانت أقدام المواطنين تدوس على صور حمد وتهتف ألسنتهم بالدعوة إلى إسقاطه، ووصفهم لحمد بأفعاله الأثيمة، في حين كانت في المقابل صُور الشيخ قاسم تُعلَّق في سماء التظاهرات، وترفعها آلافُ الأيدي، ويُعلن الجميع، كبيرا وصغيرا، استعداده لارتداء الأكفان دفاعاً وفداءا للشيخ الذي باتوا يصفونه بـ”المفدّى”. في الوضع المريض الذي أثبتته تقلّباتُ حمد، وظهوراته وغياباته، وسهولة تحوّله إلى “أداة” بيد السعوديين والإماراتيين ومن وراءهم.. لاشك أنّ آلاما فادحة تشتعل بداخله (أي حمد) وهو يرى المشهد المتفاوت في نظر الناس بينه وبين الشيخ قاسم، إلا أن هذا الوضع ذاته هو الذي يجعل حمد – في السّر والعلانية – يُمنّي نفسه بالعودة إلى “زمن القُبل” مع الشيخ قاسم، وفي الوقت نفسه – ويا للجنون! – الذي لا يكفّ حمد على إنزال المعاناة والاستهداف الممنهج ضد الشيخ وضدّ ما ومنْ يمثله. هذا التناقض هو وجه آخر لأعراض الجنون الذي يصرعُ رأس حمد دون توقف.
ظهور الدكتور فيصل الزيرة، صاحب مستشفى البحرين الدولي، أضفى لونا جديدا في تراسُل ملف الإقامة الجبرية المفروضة على الشيخ قاسم، وفي إظهار صور آخرى من جنونيّات حمد. فبعد تدهور الوضع الصحي للشيخ قاسم، ورفْضه المعالجة وفق اختيارات السلطة الإكراهية؛ كان التوجُّه لأنْ يكون المستشفى الدولي، ومن خلال الزيرة، الجهة العلاجية للشيخ قاسم. مع هذه الفاصلة الهامة، فتحَ الزيرة حسابه علي موقع “تويتر”، وأطلق من خلاله سلسلةً من التوضيحات “المطمئِنة” حيال صحة الشيخ، وتأكيده بأنه سيتولى مباشرة الإشراف على رحلة العلاج، واختار أن ينشر تغريداته بأسلوب ترواح بين الجدّ والهزل، وطعّم “تقاريره الصحية” بتعليقاتٍ ساخرة وتعابيرَ قريبة إلى لغة المجالس الخاصة، وأحيانا أقرب إلى لغة المقاهي والشوارع. وعلّل الزيرة ذلك بأنه يريد أن يغيّر الأجواء “الكئيبة” ويُسهم في تعويد المتلقين على “الفرفشة” وترقيص القلوب، وهي رغبةٌ توّجها الزيرة بدعوات/ تغريدات للخروج من “الآلام والدماء” والبدء في “صفحة جديدة”، وهذه المرة من على بساط “قبلة” جديدة بلّغها حمد للزيرة لكي يُطبعها بالنيابة عنه على جبين الشيخ قاسم، الذي يرقد في المستشفى، وكما في المرّة الأولى.
علينا هنا أن نقرأ المشهد بذات الظرافة والكوميدياء السوداء التي يظهر بها حمد، والدكتور الزيرة أيضا. المشهد الذي يجمع سيارة الروز رايز التي تقودها زوجة “الحلايلي” وهي تنقل الشيخ قاسم للمستشفى، ومشهد الزيرة وهو يعزف بمهارة البيانو، وبـ”البيجامة” السكسي. ثم يكتمل المشهد بذروة الكوميديا البليدة بلقاء حمد مرتديا بدلة “الفارس” مع الزيرة بطقمه الرسمي الخاص بالأرستقراطيين. في تفاصيل المشهد هنا ما يدفع للمزيد من تفخيخ الأفواه بالابتسامات الصفراء، حيث يقول الزيرة بأن حمد غَمَرَه بمحبّة “الناس”، وأمرَه بإيصال “القبلة” إلى الشيخ قاسم، مصحوبة بـ”المحبة والتقدير”! ولأن الكوميديا “الحزينة” لابد لها من دموع، فإن الزيرة يُخبرنا بأنه استقبل أحاديثَ حمد له و”الدموع تهطل” أمام “عظمته”، واصفا إياه بـ”مدرسة في المحبة والخلق العظيم”.
لا شك أن أسئلة “تافهة” لابد أن يطرحها المرء بعد كلّ هذه الحكاية: منْ أعطى الضوءَ الأخضر لاستهداف الشيخ قاسم منذ العام ٢٠١١م؟ هل وزراء الداخلية والخارجية والعدل.. تابعون لحكومة غير موالية لحمد عيسى؟ وهم وزراء قالوا الأسوأ قبحا في حق الشيخ ومنبره الديني. هل تلفزيون “العائلة الخليفية” يوالي حمد عيسى أم سوسن الشاعر وسعيد الحمد؟! هل إسقاط الجنسية وإحالة الشيخ للمحاكمة كان تعبيرا عن “الحب الكبير” الذي يكنّه حمد للشيخ قاسم؟ أكانت محاصرة منزل الشيخ وقتْل المعتصمين عند عتبة منزله شكلا من أشكال “الحب الدموي” أو “الجنون العاطفي” الذي يريد حمد أن يغمر به الشيخ؟ وهل يعني تمسُّك حمد “برسائل القُبل” مع الشيخ؛ بأن “صفحة جديدة” سيتم فتحها مع الشيخ وشعبه وأهله ومنبره ومدرسته.. ليُمنَع بعدها التطاولُ عليه، وهتكُ حرمات الناس الموالين له، ويعود حمد إلى “وضعه الأول” التي ظهر فيه أيّام “القبلة الأولى”؟ ثم.. ما الذي يضمن ألا يكون حمد في طور جديد من أطوار الجنون، وهو إذ يظهر بلباس “الفارس”؛ فإنه إنما واقع تحت تأثير “الجنون الرومانسي” الذي يُشبه الفقاعة التي سرعان ما تتطاير في الهواء وتختفي مع أول طلقة من الغازات السامة، كتلك التي أغرقت المنازل المجاورة لمنزل الشيخ في الدراز، وفي الوقت نفسه الذي كان الزيرة يذيع عليها مسلسله الرومانسي المضحك.