حكايات الضحايا.. المعتقل عبدالله الجزيري يكشف زيف الإصلاحات البريطانية في البحرين
من المنامه-البحرين اليوم
عبدالله ميلاد الجزيري شاب بحراني يبلغ من العمر اليوم 23 عاما، قضّى السنوات الست الأخيره منها ضيفا على المعتقلات الخليفية بدلا من أن يجلس على مقاعد الدراسة منشغلا ببناء مستقبله. كان شابّا دمث الخلق ومبادرا لمد يد العون والمساعده، فيما كانت المساجد والمآتم في بلدته، رأس رمان شاهدة على نشاطاته. وأما في المنزل فكانت علاقته وثيقة بأفراد عائلته وخاصة شقيقته الصغرى التي وصفته بأكثر من أخ قائلة “لقد كان عبدالله أكثر من أخ، فلقد كان أقرب شخص لي، وبعد اعتقاله أصبح البيت كئيبا جدا”.
رحلة اضطهاده بدأت في شهر أغسطس من العام 2010 عندما تلقى احضارية من وزارة الداخلية الخليفية، وقد لبّاها بمعية والده الذي اصطحبه إلى مركز القضيبية لمعرفة أسباب استدعائه. المسؤولون في المركز طلبوا من الوالد العودة إلى المنزل على أن يتصلوا به بعد ساعتين ليعود لأخذ ابنه، لكن الساعتين تحولت إلى ثلاثة أيام ليتلقى اتصالا يفيد بنقل عبدالله إلى مركز الحوض الجاف للحبس الإحتياطي، وأما التهم فكانت متنوعة: أعمال شغب، إشعال حرائق، وإلقاء مولوتوف.
إتهامات أقرّ بها الشاب ابن السبعة عشر ربيعا، بعد أن ذاق في مركز القضيبية شتى صنوف التعذيب. إذ تم تعذيبه بكل وحشية، عبر تعليقه وضربه بالأهواز والخشب وركله وسكب الماء البارد عليه. وفي نهاية الأمر تم عرضه على النيابة وفقا لتلك الإتهامات المنتزعة إكراها تحت التعذيب. لم يصطحبه أي من اهله ولم يوكّل له محام عند أخذه إلى النيابة التي تلقى فيها تهديدات بإعادة كرّة التعذيب عليه في القضيبية فيما لو أنكر الإتهامات الموجهة له. وجد نفسه بين نارين، نار التعذيب المجدّد ونار الإعتراف المؤدي إلى السجن، فاختار الثاني لتحكم عليه بعدها محكمة خليفية بالسجن لمدة عامين.
ومع اندلاع ثورة الرابع عشر من فبراير كان المعتقلون متلفهين للمشاركة فيها، وقد تحقق للعديد منهم ما أرادوا ومنهم عبدالله الذي أطلقت سلطات آل خليفة سراحه بعد مرور بضعة أيام على اندلاع الثورة. التحق وبعد إطلاق سراحه بميدان العز والكرامة الذي صدحت فيه حناجر البحرانيين هاتفة بإسقاط النظام الخليفي الطاغي. والده يصف حماسة ابنه للمشاركة في الإحتجاجات التي اتخذت من دوار اللؤلؤة مقرا لها قائلا “لقد كانت روحيته عالية جدّا ولم يفت السجن في عضده، بل خرج منه قويا وأكثر ثباتا على ما مضى عليه ومصرّا على تكملة المشوار”.
وأما شقيقته فلم تكن مصدّقة عينيها وهي ترى شقيقها حرّا خارج جدران المعتقل وكأنه حلم إذ حلّق عبدالله كالطائر الذي غادر قفصه ليتنشق عبير الحرية فوق دوّار اللؤلؤة، كانت الفرحة لا تسعه وهو يلتحق بجموع الشعب الثائر التي تحلّقت حول قادتها ورموزها الذين اعتلوا منصة الدوار يبثّون الحماس في نفوس الجماهير التي عقدت العزم على إسقاط نظام العائلة الخليفية الباغية.
فرحته لم تدم طويلا بعد أن استعان الخليفيون بأسيادهم آل سعود الذين استباحت قواتهم العسكرية أرض البحرين لتدنّس المساجد ودور العبادة ولتستبيح القرى والبلدات المنتفضة، لتعاود القوات الخليفية اعتقاله مرّة أخرى في يوليو من العام 2012 عند إحدى نقاط التفتيش إذ أخبره المرتزقة بأنه مطلوب وبعدها اصطحبوه إلى مركز شرطة الحورة ليخبروه بأنه محكوم غيابيا! وتم نقله إلى سجن جو ليمكث فيه لأكثر من عامين وقبل أن يطلق سراحه ب”مكرمة” من الحاكم الخليفي.
مفردة تثير السخرية والغضب في آن واحد، فهذا الحاكم الطاغي يسلب أهل البلد الأصلاء حرّيتهم بلا ذنب اقترفوه سوى مطالبتهم بحقهم بالعيش بحرية وكرامة فوق أرض أجدادهم، وبعد ذلك يمن على بعضهم بإعادة حريته التي سلبها منه والتي فطره الله عليها بما يسميه ب”المكرمة”. مفردة تثير غضب العائلة التي تقول “إنها ليست مكرمة من أحد، لأن ابننا بريئ وهم يريدون تلميع صورتهم بهذه الأفعال ولكنهم يحلمون، لأن صورتهم لا يمكن تجميلها أو تلميعها فقد أصبحت مشوهة وقبيحة بسبب أفعالهم” .
كانت معنوياته عالية بعد إطلاق سراحه، وكان أكثر إصرارا على السير في طريق الحرية إلى الحد الذي لا يمكن فيه وصف حجم فرحته بالعودة إلى أحضان عائلته، التي كانت أكثر سعادة بمقدمه، لكن القلق كان يساورها من معاودة اعتقاله.
عبدالله قرّر أن يكمل مسيرته في الحياة التي حاول الخليفيون تدميرها ونجح وبعد جهود مضنية في العثور على عمل في إحدى الشركات التجارية، بدا أكثر إصرارا على بناء مستقبله قائلا “رغم كل الصعوبات سأمضي ساعيا لبناء مستقبلي”، ولكنه لم يكن يعلم ماذا يخبيء له الخليفيون الذين لا همّ لهم سوى تحطيم أحلام البحرانيين.
الخليفيون الذي فشلوا في كسر إرادته سعوا إلى تجنيده كمخبر، إذ تلقى إحضارية من مكتب التحقيقات وعند ذهابه كان هناك أحد الضباط بانتظاره عارضا عليه العمل كمخبر. عرض عبدالله رفضه على الفور، وكانت نتيجة رفضه الضرب والإهانة قبل أن يفرج عنه بعد تهديده بمعاودة اعتقاله.
وذلك ما حصل في شهر فبراير من العام الماضي، إذ تم اعتقاله من قبل عصابة من المرتزقة المدنيين، بعد خروجه من مأتم البلدة وتم أخذه إلى مركز القضيبية. لكن المركز ادعى بأنه غير موجود لديهم. وحينها ولّى والده وجهه نحو مركز الحورة الذي أنكر هو الآخر وجوده، حتى تلقى منه اتصالا في منتصف الليل يفيد بوجوده في مبنى التحقيقات قائلا “إنه بخير”، لكن نبرة صوته لم تكن توحي بأنه على خير،إذ بدا منهكا على حد قول والده.
وبعد يومين علمت العائلة بتعرضه إلى تعذيب رهيب للحد الذي فقد فيه وعيه، وتم نقله إلى مستشفى القلعة التي رفضت استلامه لخطورة حالته، وأوصت بنقله إلى مستشفى الطواريء، ليتم نقله إلى المستشفى العسكري الذي أعاده إلى التحقيقات التي عاودت تعذيبه وحتى نقله بعد عدة أيام إلى سجن الحوض الجاف.
مارسوا معه شتى صنوف التعذيب النفسي والجسدي وخاصة الضرب على منطقة الظهر والأرجل والسخرية منه عبر إجباره على تقليد أصوات الحيوانات. والده قرّر أن يرفع شكوى إلى ما يسمى بديوان التظلمات وإلى الداخلية حول تعذيبه وطالبهم بمحاسبة معذّبي ولده. التظلمات أقرت بتعذيبه وكذلك الطبيب الشرعي، وادعت أن القضية باتت في يد مكتب التحقيقات الخاصة الذي لم يحرك ساكنا وحتى اليوم. مؤسسات تستدل بها بريطانيا على ما تسميه بالتقدم على صعيد الإصلاح واحترام حقوق الإنسان في البحرين.
لكن هذه المؤسسات التي أنشاها النظام بدعم بريطاني لا تهدف إلا إلى امتصاص غضب المظلومين وتلميع صورة النظام، وأما أةرها على أرض الواقع فلا يكاد يذكر. كما وأن المحاكم الخليفية لا تقيم لها وزنا ولا اعتبارا، فالقاضي الظهراني لم يعر أدلة تعذيبه أي أهمية وفضّل عليهما شهادة ضعيفة من المعذّبين أنفسهم الذين نفوا تعذيبه، فما كان منه إلا أن يصدر حكما بسجنه لمدة سبعة أعوام قبل أن تخفضه محكمة الإستئناف إلى ثلاثة.
كانت معنويات عبدالله عالية عند تلقيه للحكم قائلا “إن الحكم لله رب العالمين ولن يزيدني هذا الحكم إلا إصرارا على المضي في طريقي”. نقل إلى سجن جو لقضاء مدة محكوميته وسط معاناة صحية إثر التعذيب الذي تلقاه، إذ يعاني من آلام في الظهر ولكنه لم يتلق العلاج اللازم في السجن بالرغم من مراجعته لعيادته، وفي آخر المطاف تم حجز موعد له في مستشفى القلعة.
يساور عائلته قلق كبير على صحته بسبب الإهمال والحرمان من العلاج والتعرض الى الضرب أحيانا. مظلومية لن تسكت عائلته عن كشفها وقد حمّلها عبدالله المسؤولية وفي ذلك تقول شقيقته: “سنكون بإذن الله بحجم المسؤولية”.
وأما والده المفجوع بفراق ابنه؛ فلا يبدو نادما على الطريق الذي سلكه ابنه واصفا إياه بطريق الحق ومعربا عن افتخاره بابنه، وبأن تربيته لم تضيع سدىً قائلا: ” إن ما حصل لإبني قليل مقارنة بما وقع على العديد من البحرانيين الذين فقد البعض منهم حياته”، معاهدا ابنه على السير في طريقه وحتى تحقيق الأهداف المشروعة.
والدته تجهش بالبكاء كلما رأت ابن خالته الذي كان يصاحبه طوال الوقت، ويزيدها الفراق يوما بعد آخر حزنا وتعبا. شقيقته المتعلقة به تفخر به وبصموده قائلة “إنه صامد رغم الاعتقالات، وهذه أشياء تجعلني أفتخر بأنني عندي أخ مثله”. وتضيف “لقد أثّر فينا إيجابياً فنحن نستمد منه اليوم الصبر والقوة والصمود، ولو عاد إلينا اليوم فسنكون عون ومشجعين له من جديد للمضي بطريق ذات شوكة”.
العائلة تزوره بانتظام في السجن، وهي متلهفة لرؤيته إلا أن ما ينغص فرحتها بلقائه هي إجراءات التفتيش الخليفية التي تهدف إلى إهانتهم واستفزازهم. وتوضح شقيقته بأن تلك الإجراءات لا تهدف إلا إلى “مضايقة عوائل المعتقلين عبر المعاملة الإستفزازية والحقيرة.”
وتعلق شقيقته على ذلك مخاطبة الخليفيين الأوغاد” هل تعتقدون بأنكم من خلال هذه الإعتقالات ستقضون على الثورة؟ إنكم واهمون، فالثورة تعيشنا ونحن نعيشها، ونقول للجميع الصمود والصبر هو السبيل إلى الوصول إلى أهدافنا السامية”.
إن أمة تحمل بين جنباتها مثل هذه الروح العالية لن يكتب الله لها سوى النصر المؤزر، وأما من طبعهم الخسة والوحشية والإنسلاخ عن القيم الإنسانية فهم إلى زوال مهما علوا وطغوا وتجبّروا؛ فإن للحق دولة بدأت بشائرها تلوح في الأفق، وأما جولة الباطل فإلى زوال ولن تنفعهم حصونهم ولا القواعد العسكرية، ولا الدعم الخارجي من النجاة من سقوطهم المحتوم.