محمد النمر: ضحية من ضحايا مملكة السوء
البحرين اليوم – (حكايات الضحايا)
قبل ثلاثة أشهر من اعتقاله؛ كان قد انضم لنادي الترجي في رياضة كمال الأجسام، وكان يستعد لتقديم امتحانات سنته النهائية في المرحلة الثانوية. حظه العاثر أنه عاش في مملكة السوء، وفي غرف الموت المنتشرة في أرجائها المترامية. ما يخفف وطأة ألمه أنه ليس الوحيد من جيله الذين يقبعون هناك في السجون، فقبله مئات الشباب الأقل منه عمرا، ومن هم أكبر سنا. قبل ثماني سنوات، اعتقل خاله جعفر الفرج وقضى سنواته الثماني في السجن، وعندما أُفرج عنه أعيد اعتقاله مرة أخرى، وخاله الثاني حسين الفرج معتقل أيضا. لا تنتهي معاناة العائلة هنا، فعائلة النمر المصاهرة لعائلة الفرج لا تقل معاناة أيضا، وقدمت من الشهداء والمعتقلين الكثير. إذن، السجن والاعتقال والاستشهاد هي خبراته الحياتية التي عاشها في فترة يُفترض بها أن تكون صافية وخالية من التوتر والصخب السياسي.
عشية عيد الفطر؛ قرر محمد النمر أن يقضي ليالي العيد قرب قبر الرسول الاكرم بعد أن زار البحرين قبلها بيوم واحد. كل الأمور كانت تبدو طبيعة جدا، فشرطة ومخابرات الجوازات اطلعوا على جوازه أثناء تنقله، ولم يكن هناك ما يشير إلى ما يريب أو يثير الشك.
الاتصال الأول بوالديه كان طبيعيا أيضا، وأخبرهم أنه مع أصدقائه في المدنية المنورة، وأنهم أدوا مناسك الزيارة. أما الاتصال الثاني فكان غريبا! المتصل مجهول، ويصر على أن يطيل الحديث بحجة تشابه الأسماء، لم يكن محمد النمر ملتفتا إلى ذلك كثيرا إلا بعد أن أقفل الهاتف ووجد فوهة السلاح قرب وجهه ومجموعة من المدنيين يحيطون السيارة التي يستقلها مع أصدقائه. أُقتيد محمد النمر إلى مكان مجهول بعد أن سُقي ماء، ودخل بعدها في غيبوبة قام منها أمام ضابط مخابرات المدينة. تسرّب خبر اعتقال مجموعة من شباب العوامية في المدنية المنورة، وكانت العوامية تغلي مقاومة وصمودا أمام دبابات مملكة السوء، ومديية المسورة تنتظر ان تسويها المدافع والطائرات بالأرض. اتصال سريع لثوان محدودة قال فيها محمد لأهله أنه معتقل، ولكن لا يعرف مكان اعتقاله، وأغلق الخط سريعا.
لقد تيقنت عائلته الآن من الأخبار، وباتت تعرف يقينا أن المجموعة التي اعتقلت – وعددهم عشرة – شباب تتراوح أعمارهم بين ١٥ عاما و٢٢ عاما – تيقنت أن ابنها محمد هو من ضمنها. قفل والده قاصدا مباحث المدينة المنورة لمعرفة مصير ابنه، لكنه – وكعادة كل عناصر مملكة السوء – رجع خائبا وكان على العائلة المتألمة أن تتعود على الصبر، وأن تدعو الله لنجاة ابنها من مصير مجهول. هوّن عليه الوضع أن الآخرين الذين حضروا للسؤال عن فلذات أكبادهم واجهوا الجواب نفسه. لقد قيل سابقا: يكفينا سرد حكايات الألم التي تُكتب حروفها بالخط الكبير على أجساد المعتقلين هناك، ويحدث أحيانا أن تغيب هذه الحكاية المخطوطة على الأجساد بفعل دفن أجساد الشهداء دون علم ودراية ذويهم، فلا يقرأ الحكاية سوى الكفن.
بعد يومين من اعتقاله، ومن قلق العائلة؛ دقات الهاتف كانت ذات إيقاع مختلف. لهف قلب أمه بغريزة الأمومة المودعة فيها، وبعادة الاعتقالات التي تعرّض لها أخوتها وأبناء أخواتها مرارا. إنه صوت محمد مجددا يخبرهم أنه نُقل إلى مباحث الدمام، وسريعا أغلق الهاتف ليبدأ المشهد المعتاد مجددا، وينتهي بالخاتمة المألوفة: ” لا نعرف عنه شيئا وإذا ما وصلنا سوف نخبركم”. هكذا يتربى حرّاس مملكة السوء في التعامل مع ضحاياهم، فالعذاب يجب أن يطال الجميع.
بعد خمسة شهور ونصف، ومماطلة من المحقق؛ قال لهم الضابط أنه سيتصل بهم لتحديد زيارة أولى لمحمد، وبعد أسبوعين من هذا الاتفاق جاءت لحظة اللقاء المرتقب. اتصل محمد بعد خروجه من السجن الإنفرادي ليُخبر أهله بموعد زيارته الذي سيكون في اليوم الثاني. تصف والدة محمد هذه اللحظة بقولها: “لم أعرفه. إنه ليس ابني الذي ربيته وأعرفه.. ماذا فعلت السياط والهروات في جسده؟ ماذا فعلوا بعقله حتى أصبح مشوشا فاقدا للتركيز ؟!”. محمد الشاب الاجتماعي والمحبوب عند كل من يراه ويجلس معه؛ بات مختلفا. أفكاره متفجرة، ولا يعرف كيف يتحدث كما كان.
مدة قصيرة تكفي لأن يستعيد محمد بعضا من تفكيره وجزءا ضخما من ذاكرة السجن الإنفرادي: “وضعوني في الإنفرادي لمدة شهرين..كانوا يجلدوني يوميا.. قلعوا أظافري ..”. في مشهد ثان؛ يفصح محمد النمر عن جزء آخر من معاناته: “أتناول ١٢ حبة دواء، لا أعرف لماذا يعطوني إياها سوى أن واحدة تعطي للقولون. ضغطي صار مرتفعا بشكل دائم بسبب الوقوف الطويل منكوسا على رأسي، ورجل الضابط تهرس أعضائي التناسلية”.
في سجون مملكة السوء الاتهامات مجانية، تُعطى كعروض تجارية، كل ما على السجين أن يختار مجموعة مما يُعرض عليه. وأحيانا، يحب المحققون أن يسحبوا اعترافات إجبارية من خلال تلقين المعتقل التهمة، والاعتراف على آخرين. عرضوا على مجموعة من الشباب الذين اعتقلوهم مع محمد تهمة جمع السلاح ونقله وتهريبه للمقاومين في العوامية، وخيّروه أن يختار تهما أخرى، من بينها الخروج في تشييع الشهداء والمظاهرات. الموضوع هنا ليس حقائق واقعية، ولا معلومات يمكن التأكد منها، كل ما في الموضوع هو تلفيقٌ لتهمٍ خيوطها أنه يعرف بعض المطلوبين معرفة أبناء القرية، أو ينتسب إلى بعضهم عائليا، أو أي رابط من هذا القبيل، ويكفيه أنه من عائلة النمر ومن عائلة الفرج؛ لتكون هذه تهمة بحد ذاتها. رغم رفضه لكل التهم التي ألصقت به؛ لا يزال محمد معتقلا مع آخرين تم اعتقالهم معه في المدينة المنورة.
يعاني محمد النمر حاليا من التهابات في المسالك البولية، والتهابات شديدة الألم في الأسنان في ظل تقاعس إدارة السجن عن تلقيه العلاج المناسب. محمد النمر لم يُقدَّم لمحكمة، ولم يُسمح له بتوكيل محام يدافع عنه، لكنه يصر من سجنه على أن يُكمل دراسته التي حُرم منها كما حُرم من أهله وعائلته. وعائلته تنتظر فرجا من الله يخلصه من عذابه وأن يعيده إليهم.
في زنزانته التي لا يعلم أحد غير سجانيه كيف هي، يقضي محمد النمر ذو التسعة عشر عاما، انتظارا لحظة الإفراج عنه، ولحظة نمو أظافره التي قلعها الجلادون عن أصابع يده في مباحث الدمام. الزمن الذي يختصر دورته ويفضل أن يكون متواريا خلف ابتسامة محمد النمر في سجنه الذي غُيّب فيه عندما أحاطته مجموعة من رجال الاستخبارات السعودية في المديية المنورة قبل حوالي العام.