تقارير

حرب الدولة (2-2): عصابات الدولة الدستورية

 

البحرين اليوم – (خاص)

الجزء الأول من التقرير: حرب الدولة (1-2): خطاب السلم في الدولة الدّستورية

 

للوصول إلى فهم أدق وأعمق للحرب المتخفية في الدولة الدستورية، وتعرية خطاب السلم عندها؛ علينا أن نبتعد عن الآمال المعلَّقة على إنجازات الدولة الدستورية، وما تروّجه من حالات تواصل بين شرائح المجتمع وفق أطر خالية من الذاتية، وهو وضعٌ يصعب علينا قبوله الآن.

الخديعة التي يمارسها خطاب السلم في الدولة الدستورية؛ هي القول بأن علاقات السلطة/القوة لا تَقصدُ إلا بلورة وحدة المجتمع السياسي، والدفاع عنه ضد المخاطر الداخلية والخارجية، والحفاظ على الذاكرة الجماعية، وإحاطة المواطنين وضبطهم، ورسم حدود الدولة والمصلحة الجامعة.

هذا الإصرار على سلمية خطاب الدولة الدستورية وتضخيمه بالشكل الذي هو عليه الآن؛ يؤمّن لخطاب الحرب حضورا أكبر مما لو كانت الحرب قائمة بالفعل، فنحن أمام حالة إعطاء أولوية للمخفيّ على المرئيّ، يصبح الرفض شبه الإجماعي للحرب مدعاة اهتمام ومبرر جديد للمراقبة وفرض الإكراهات، وتبريرا للقوة من أجل إبعاد حدوثها، لكنها حاضرة وبكل قوة. هكذا؛ فإن وضع الدولة الدستورية المؤسَّس على اقتسام السلطة بالشكل الذي يضمن عدم تجاوز أي فريق على الآخر؛ يكرس نزعة الخوف، ويخلخل خطاب السلم المعلن.

إن سلوك القائمين على الدولة الدستورية يتشابه وسلوك عصابات المافيا التي تسعى إلى تعظيم مكاسبها الذاتية وحفظها من خلال خلق السلع العامة، فالدستور مثالا يصبح سلعة عامة يتم التعامل معه من منظور المصلحة الذاتية لزعيم العصابة، أو مجموع الزعماء، فالفائز في الانتخابات لا يستطيع تغيير الثوابت المُقرَّة سلفا. يتأكد هذا في وضعية الدساتير المنحة التي يصكّها الحاكم ويوزّعها على أفراد المواطنين، وهو في الحقيقة يجبرهم على قبول هذه السلعة العامة والتعاطي معها.

مثل هذا الخطاب المزدوج لا يمكن للدولة الدستورية أن تبتعد عنه أو أن تتخلص من تبعاته سواء على الصعيد المادي (جيش وأسلحة، أنظمة دفاع، أجهزة أمن) أو الصعيد الرمزي (اللغة، التربية، الاهتمام الشخصي).

 

عصابات المافيا

 

سنلجأ إلى منصور أولسون مرة أخرى حيث يسعى إلى فهم منطق السلطة المحرِّك للدولة الدستورية بمشابهتها بالسلوك الإجرامي (نشاط العصابات)، فالحكومة المفْرزة في الدولة الدستورية من وجهة نظره تقوم بعمل العصابة أو المافيا في مجتمعاتها، مقابل العصابات الجوالة في الدولة المستبدة.

إن زعيم العصابة المستقر (الدولة الدستورية) وفق تحليل أولسون لديه الحافز على توفير السلع العامة من خلال ما يسيطر عليه من موارد يمكنه الإنفاق منها على نفسه وعلى توسيع مصادر الدخل والثروة لديه، وحيث إن ضحايا زعيم العصابة المستقِر هم مصدر العائدات (الأتاوات – السرقة – الضرائب) بالنسبة له؛ فإنه يحظر قتل ضحاياه أو تشويههم جسديا. كما إن قيامهم بالسرقة، وما يترتب عليه من إجراءات ترمي إلى منع هذه السرقة؛ من شانه أن يؤدي إلى خفض الدخل العام، فلا يسمح زعيم العصابة لأحد سواه بأن يسرق، وهو يخدم مصالحه بإنفاق بعض الموارد التي يتحكم فيها لمنع الجريمة بين رعاياه، وتوفير سلع عامة.

أي أن زعيم العصابة المستقِر بسببٍ من احتكاره للجريمة ونظام الأتاوة؛ فإن لديه مصلحة جامعة في منطقة نفوذه تجعله يحِدّ من السلب والنهب. من الواضح أيضا أن مصلحة عصابة المافيا تتحقق بإبعاد اللصوص الآخرين عن الدخول إلى مجال عملها، لذلك تعظّم عائلة المافيا ما تحصل عليه بقيامها ببيع الحماية، سواء من الجريمة التي يمكنها ارتكابها، إضافة إلى الجريمة التي من الممكن أن يرتكبها الآخرون.

 

معنى ذلك أن خطاب السلم المعلن في الدولة الدستورية يستمر في العمل من خلال إتباعه لإستراتيجيات تُبعد عنه صفة الحرب وسلوك عصابات المافيا، فالمرامي التي يؤكدها الخطاب الدستوري أن هناك مزيدا من القيود والمعاهدات المتبادلة يمكنها ضمان المصالح الشخصية للأفراد لفترةٍ زمنية أطول، كما يمكنهم ضمان ملكياتهم من المصادرة بما يعزّز الحوافز الأولية للكسب والربح، ويوفر لهم الحماية من العنف والتشويه. الوصول بأفراد المجتمع إلى وضعية كهذه يستلزم التنازل الطوعي عن أجزاء من السلطة والإذعان بقبول الإكراه الذي تمارسه نصوص الدستور، مثل التهديد بالعنف والقسر في حالات المخالفة، والخروج على النصوص الدستورية والقوانين المشرعة.

هذه الإستراتيجيات هي نفسها إستراتيجيات الحرب وإستراتيجيات زعيم عصابة المافيا المستقر، مُحولة ومٌقتطعة إلى حيز الدولة الدستورية الذي سيغدو بمثابة ساحة حرب الاقتتال، فالذي لم تستطع آلة الحرب من إنجازه، فإن الدولة الدستورية تقدّم نفسها هنا على أنها القادرة على تجاوز الحقيقة الخطابية والانشغال بالحقيقة الكونية الصافية.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى