ثنائية الحكم في البحرين.. الأصول التاريخية للنزاع
البحرين اليوم – (خاص)
تشكل مسألة تداول السلطة داخل النظام السياسي في البحرين تحديا جديا بالنسبة لشرعية النظام القانونية، أو حتى شرعية الإنجاز التي يستند عليها اليوم بدلا من الشرعية الدستورية، ولذلك فإن المسألة تدخل ضمن الأمور الاستراتيجية لأي نظام وراثي. تاريخيا، لم تكن هناك أعراف محددة في توريث السلطة داخل العائلة الحاكمة، وقد استمر الوضع مبهما وخاضعا لظهور الطرف القوي لاستلام زمام الحكم بمفرده أو عبر تحالفات هشة وسيالة قابلة للتغير بشكل غير متوقع.
تجدر الإشارة هنا إلى حيثية قلما يُشار إليها، وهي مسألة تعليم أبناء آل خليفة، وهي مسألة في غاية الدلالة لما نحن فيه، حيث كانت تربية أفراد عائلة آل خليفة تتم وفقا لما يذكره ناصر الخيري تربية بسيطة تماثل تربية أولاد الشيوخ في البلاد العربية، فيتهمون بتربيتهم على فنون الفروسية واقتناء الجياد والابل وصيد الصقور، في حين تغيب قضايا الأدب والعلوم والمعارف التي يعرفها أبسط الناس العاديين، لذا يقول الخيري عن محمد بن خليفة “إنه نشأ أميا جاهلا لا يعرف من شؤون هذا العالم غير ركوب الجياد والتقلب على ظهور الأبل، واقتناء العبيد والجواري بكثرة عظيمة، وتثقيف الطيور” الصقارة” وإعدادها للصيد والقنص..” (“قلائد النحرين في تاريخ البحرين”، ص٢٦٩-٢٧٠)، وبالتالي فنحن أمام ثقافة تؤهل أفرادها للحرب واقتناص الفرص للوثوب على سدة الحكم، حتى ولو كان الحاكم هو الأب أو العم، في خرق واضح لأبسط قواعد الأعراف القبيلة التي دونها أساطين الأنثروبولوجيا. (انظر: وضاح شرارة، “الأهل والغنمية.. مقومات السياسة في المملكة العربية السعودية”).
لقد تعرض نظام الحكم لهزات ولصعود وهبوط في توريث الحكم، لكنه استطاع الحفاظ على بقائه في سدة الحكم رغم خسارته لمناطق جغرافية كانت تابعة للبحرين، من بينها الزبارة أو شبه جزيرة قطر التي انفصلت عن البحرين في فترة حكم محمد بن خليفة.
في المقابل؛ فإن نزاعات الأخوة وأبناء الحكام قد سببت تصدعا كبيرا أدى لنشوب حروب داخلية استمرت أكثر من نصف قرن، كما أدت لتنحية بعض فروع العائلة عن البحرين إجمالا، وليس عن سدة الحكم فقط. وبسبب هذا التصدع كانت تحالفات الحرب متقلبة وغير قابلة للضبط، خصوصا وأنها تجرى مع أطراف خارجية لها أطماع صريحة في السيطرة على البحرين. ليس هذا فحسب بل أن بعض الحكام كانوا مثل محمد بن خليفة كانوا على استعداد للتوقيع على اتفاقيات سياسية تفقد البحرين استقلالها حيث كان يتواصل مع إيران ومع تركيا ومع بريطانيا بغرض حماية نفسه من تحالفات أفراد عائلته. وبالتالي فلم تكن مسألة توريث الحكم مسألة يمكن التنبؤ بمصيرها أو ما الذي يمكن ان تفعله في وضع السياسات والإستراتيجيات بما في ذلك وضع استقلال البحرين.
بدورها، كانت بريطانيا التي أصبحت شريكا أساسيا في نظام الحكم منذ 1820 وتوقيع اتفاقيات الهدنة أو الساحل المتصالح غير معنية تماما بمجريات النزاعات الداخلية بين أفراد العائلة، كما لم تكن قادرة على ضبط إيقاع الصراع بسبب تعقد الأوضاع الإقليمية. وقد أجربت حالات الصراع العائلي بريطانيا على التدخل أكثر من مرة لحماية مصالحها التجارية وضمان استمرار سريان الاتفاقيات السياسية.
نزاع الأخوة
قبل 1842 لم تكن الأوضاع السياسية الداخلية مهيأة تماما لظهور الصراع الداخلي بين الأخوة أو بين الحاكم وأبنائه، فقد كانت البحرين منذ أن تم الاستيلاء عليها من قبل العتوب في 1783 تتعرض لغزوات خارجية تطيح بآل خليفة، ثم تعيدهم إليها مرة أخرى. فمثلا، لم تكد تمضي سنوات على استقرار آل خليفة في البحرين بعد وفاة أحمد الخليفة، الملقب بالفاتح، وانتقال أبنائه من الزبارة للبحرين؛ حتى هاجم سلطان عُمان البحرين وطرد آل خليفة منها، وعيّن ابنه الصغير حاكما فيها. وقد استمر الاستيلاء العماني قرابة ثلاث سنوات، تم بعدها طرد العمانيين بتحالف آل خليفة مع آل سعود، مقابل الحصول على الجزية من آل خليفة. ورغم تحلل آل خليفة من تبعية آل سعود بعد عدة سنوات، إلا أن وكيل آل سعود إبراهيم بن غفيصان كان يطمع في السيطرة على البحرين، فهاجم البحرين من جهة قطر واستطاع احتلال البحرين، وبقي فيها لحدود 1810 عندما تحالف آل خليفة مرة أخرى مع العمانيين لطرد الوكيل السعودي.
من الناحية العملية، يمكن القول بأن طرد بن غفيصان من البحرين كان بداية استقرار آل خليفة في البحرين، واستقرار حكمهم للجزيرة حيث تأكد للأطراف الإقليمية أن البحرين ستبقى في عهدة آل خليفة لفترة زمنية أطول من المتوقع. لذا جاءت اتفاقيات الساحل المتصالح سنة 1820 بمثابة الاعتراف البريطاني بأحقية المشيخات القائمة في تولي الحكم، وأن عليها أن تكون محل رضا السياسة البريطانية وإلا تعرضت لما تعرض له القواسم من تدمير وانهاء للقوة التي كانوا يتمتعون بها حتى 1819.
بحكم ذاك الوضع السياسي المتقلب؛ كانت عائلة آل خليفة تعيش الاضطراب الداخلي أيضا، وتخشى من قوة الطرد التي تمتلكها التحالفات الإقليمية. ولذلك فقد برعت عائلة آل خليفة في ابتداع نظام حكم تشاركي يتيح لها البقاء، ويتيح لها حسم الصراعات الداخلية، فتم الاتفاق بين أبناء احمد آل خليفة على اقتسام الحكم في البحرين بحيث يكون عبدالله في جزيرة المحرق وسلمان في جزيرة البحرين، وتحديدا في الرفاع. إلا أن هذه الصيغة التشاركية تعرضت للتفسخ بعد انتهاء حكم الآباء ودخول الجيل الجديد من الأبناء في دهاليز السياسة. فدخلت العائلة في صراع مكشوف ومعقد جدا منهيا حكم الأخوة الذي استمر لعقدين من الزمن. فكان محمد بن خليفة ينتهر بشراسة كل من يلقب أخوته أو أولاده امامه بلقب ” الشيخ”، بل أن ولده الأكبر، خليفة، حارب ضده في معركة الضلع الشهيرة التي قتل فيها علي بن خليفة وكان خليفة بن محمد من أنصار عمه القتيل ضد والده، وعندما ذهب عيسى بن علي للحج مرّ بعدن وفيها عمه محمد بن خليفة منفيا، فلم يذهب لزيارته او مقابلته. وقد انتقد كثير من الناس ما أسماه الخيري بالجفاء وعدم الرقة.
رغم ذلك، فمن المهم الإشارة هنا إلى أن انتهاء حكم الاخوة لم يلغ مبدأ التقاسم الفعلي للحكم حتى بعد عودة الاستقرار السياسي وإنهاء الصراع الداخلي بتنصيب عيسى بن علي حاكما على البحرين في 1869. فبعد تنصيب عيسى بن علي حاكما من قبل بريطانيا؛ شاركه أخوه أحمد في الحكم، وكانت أغلب المعاهدات التي توقع تُختم بختم كل من أحمد وعيسى معا. بيد أن هذا التشارك اتخذ طابعا جديدا في صيغة الحكم تختلف عن صيغة التشارك السابقة. فحكم الأخوة هنا يقوم على الاعتراف بأحد الأخوة حاكما عاما وقد يكون ضعيفا، ويأتي الأخ الثاني كرئيس وزراء أو كحاكم تنفيذي، وفي الغالب يكون قويا ونافذا. وسنرى أن هذا النوع من العلاقة التشاركية أو تقاسم السلطة سيبقى مستمرا كعرف دستوري في نظام الحكم.
إجمالا كان عهد عيسى بن علي عهدا مستقرا بسبب ثلاثة أمور رئيسية:
- الأول: بفعل الحماية البريطانية الكبيرة التي وفرتها بريطانيا له فوقع معهم معاهدة عام 1286هـ / 1880م وجددت تلك الاتفاقية بمعاهدة ثانية عام 1310هـ / 1892م ومعاهدة ثالثة عام 1311هـ / 1893م وتعهد عيسى بن علي بموجبها للإنجليز بما أدخله في جملة محمياتهم وكبلته هو ومن يأتي بعده من حكام البحرين بقيود جعلت بريطانيا تسيطر على البحرين سيطرة أكيدة. من هذه القيود والشروط أنه: لا يحق لشيخ البحرين أن يتنازل عن أي جزء من أرضه إلى أي جهة سوى بريطانيا ولا يحق له أن يعقد أي اتفاق أو يقيم علاقة مع دولة أخرى دون علم بريطانيا. وأبعد من ذلك التزم الشيخ عيسى بتعهد للحكومة البريطانية، يتم بمقتضاه أن يؤكد شيخ البحرين ويلتزم بأنه في حال احتمال وجود النفط في بلاده البحرين فإنه لن يستثمره بنفسه وليس له الحق أن يفاتح أحد بخصوصه بدون استشارة المستشار البريطاني في البحرين وبعد الحصول على موافقة الحكومة البريطانية السامية.
- الثاني: ضعف وانهيار تحالفات أقربائه الآخرين، خصوصا وأن عيسى بن علي نسج تحالفا قويا مع الحكم السعودي الذي كان يهدد استقرار البحرين عن طريق دعمه للخارجين على نظام الحكم، فقد لجأ الإمام عبد الرحمن بن فيصل والد الملك عبد العزيز إلى الشيخ عيسى بن علي آل خليفة في عام (1309هـ/ 1891م) وكان بصحبته ابنه عبد العزيز الذي لم يكن قد تجاوز العاشرة من عمره وقتذاك عندما كان الإمام عبد الرحمن يبحث له ولأسرته عن مأوى آمن يلجأ إليه بعد مغادرته نجد إلى الصحراء فقطر ثم البحرين. وقد سمح له الشيخ عيسى بالإقامة في البحرين.
- الثالث: زيادة العائدات التجارية للبحرين وارتفاع مدخول نظام الحكم من الضرائب والجمارك، وهذا جعله يدفع كثيرا لبعض القبائل المتحالفة معه مثل قبيلة النعيم أو يسهل أمور قبائل أخرى مثل قبيلة الدواسر.
هذه الأمور الثلاثة بجانب عوامل أخرى سرعت في إعادة طرح مسألة ولاية العهد خصوصا المعاهدات البريطانية التي نصت على أن الاتفاقيات سارية لمن يأتي خلفه. ولهذا عملت بريطانيا على أن تكون مسألة ولاية العهد محسومة لضمان جهة تتولى تنفيذ الاتفاقيات والالتزام بها. فعلى سبيل المثال؛ فقد كان شقيق عيسى بن علي الأصغر خالد شرسا جدا وعنيفا أيضا وتسبب سلوكه النزق في حدوث حرب معلنة بين قبيلة آل بن علي وزعيمها سلطان بن سلامة وبين نظام الحكم في البحرين بعد أن قام خالد بن علي بانتهاك حرمة حمد بن سالم أحد شيوخ قبيلة بن علي في سنة 1313. ونتيجة لذلك اضطر عيسى بن علي أن يوقع عدة اتفاقيات جديدة، منها اتفاقية منع تجارة الرقيق واتفاقية منع الأسلحة وغيرها من الاتفاقيات مع بريطانيا.
كانت ولاية العهد وتوريث الحكم جديدة بالنسبة لنظام الحكم في البحرين لكنها في الوقت نفسه كانت تعتبر ضرورية وحاسمة واستراتيجية لكل من نظام الحكم والإدارة البريطانية ذات العيون المفتوحة على جمارك البحرين. والذي يظهر من مراجعة سجل عائلة عيسى بن علي أن وفاة أخيه احمد بن علي في 1888 قد استرعت انتباه أخوته الاخرين والبالغ عدد الأكثر من عشرة، لهذا بادر عيسى بن علي لأن يكون نجله الأكبر سلمان وليا للعهد إلا أن وفاته في عمر مبكر حالت دون إتمام مسألة ضمان ولاية العهد له حيث توفي سلمان في 1896 وله من العمر 20 عاما.
بعدها عمل عيسى بن علي على تنصيب نجله حمد وليا للعهد ولسوء الحظ فإن هذه الرغبة تزامنت مع رغبة بريطانيا الجادة في السيطرة على جمارك البحرين والتي كانت مصدر دخل كبير جدا وفي الوقت نفسه كانت بريطانيا تحاول إدخال البحرين ضمن نظام السوق المفتوحة تسهيلا لتجارته المتوسعة. في حين كان موقف عيسى بن علي متشددا في مسألة قبول مشاركة بريطانيا في الجمارك، ولهذا سعت بريطانيا في استثمار حاجة عيسى بن علي لتثبيت ابنه حمد وليا للعهد ومقايضة ذلك بقبول عيسى بن علي مطالب البريطانيين وبعد مداولات طويلة اعترفت بريطانيا بحمد وليا للعهد في 1904.
قانون التدافع
بحكم تلاقي الرغبة البريطانية في ضمان استمرار العمل بالاتفاقيات الموقعة مع حاكم البحرين عيسى بن علي ورغبة الحاكم في انتقال الحكم لنجله بدون مشاكل؛ أقرّ الطرفان قانون انتقال الحكم في عائلة آل خليفة من خلال تعيين ولي العهد حمد بن عيسى واعتراف حكومة الهند بهذا التعيين. تم الاعتراف بحَمَد كخليفة لعيسى من قِبل الحكومة البريطانية في الهند في ١٩٠١ ومن ثمَ وطَّد علاقاته بالسلطات البريطانية في البحرين. وعقب تنصيبه حاكماً للبحرين في ١٩٢٣ تم إجراء سلسلة من الإصلاحات الإدارية والمؤسسية في الدولة، صاغها الوكيل السياسي البريطاني في البحرين كلايف دالي. إلا أن مسألة ولاية العهد وتوريث السلطة ظلت كما هي دون أن يكون هناك قانون مكتوب في شأنها بحيث يكون معروفا للجميع وبالأخص أفراد عائلة ال خليفة بولي العهد المقبل. فرغم وجود وثيقة ولاية العهد لحمد النجل الأكبر الحي لعيسى بن علي إلا أن المسألة ضلت متأرجحة بينه وبين أخيه غير الشقيق عبدالله الذي كان مقربا أكثر لوالده عيسى بن علي وكانت والدته عائشة قوية النفوذ في أمور السلطة. ويبدو أنها كانت تدفع لأن يكون عبدالله وليا للعهد أو خليفة لأبيه، بدلا من حمد.
بدورها كانت بريطانيا على دراية بوجود بوادر صراع حول توريث الحكم قد يطيح بحمد لصالح عبدالله، ولهذا نجد أن من بين الأسباب غير المعلنة لعزل الحاكم عيسى بن علي وتعيين ابنه تحت عنوان نائب الحاكم؛ هو تحرك استباقي من أجل قطع الطريق على تولي عبدالله زمام الحكم أو تنازل عيسى بن علي عن الحكم لصالحه أو تعينه وليا للعهد. فكانت جهود ديلي ومن ورائه تويلفر تتجه ناحية تجريد عبدالله من سلطته التي يتمتع بها والتي اكتسبها من قربه لوالده ومن قيامه بزيارة لندن نيابة عن والده في 1919.
أكثر من ذلك فإن التقارير التي كانت ترفع للمقيم السياسي في أبوشهر وإلى حكومة الهند؛ كانت تؤكد على أن المعتمد السياسي أو المقيم السياسي كانوا يخشون أن ينكث عبدالله بتعهداته التي كان يتعهد بها أمامهم. وفي الوقت نفسه؛ كانت وجهة نظر الإدارة البريطانية أن حوادث العنف التي سبقت إدخال الإصلاحات الإدارية وعزل عيسى بن علي كانت تدار خفية من قبل عبدالله وحاشيته كطرف داخلي ومن قبل بن سعود كطرف خارجي. وبالتالي فقد كان حسم مسألة ولاية العهد لم تكن حاسمة بقدر ما كانت نتيجة متحصلة من صراعات داخلية وخارجية ومن توازنات بين الأطراف القوية.
ويبدو من تتبع التراكم التاريخي، أن مسألة ولاية العهد وحتى هذه الفترة لم تكن تخضع لنقاشات خارجية أو علنية بل كانت أشبه ما تكون بنقاشات سرية وخاصة. وأن الطريقة التي كانت المسألة تدار بها هي عبارة عن قيام الحاكم بجمع بعض الأعيان ورؤساء القبائل وأخذ توقيعاتهم على بيان ولاية العهد وأخذ المواثيق عليهم بكتمان الأمر لحين رحيل الحاكم، ومن ثم تودع هذه الوثيقة في بيت الدولة لإظهارها في حالة عدم توافق العائلة الحاكمة على ولي العهد. وفي بعض الأحيان كانت تواقيع أولئك الأعيان تكون ممضية على بياض وعلى غير علم بمحتوى البيان الذي سيكتب كما في حالة سلمان بن حمد.