الدكتور عبد الهادي خلف في حوار مع (البحرين اليوم): استقلال البحرين وموروثات الغزو الخليفي (١-٢)
البحرين اليوم – (خاص)
يؤمن المعارض البحراني البارز وعالم الاجتماع الدكتور عبد الهادي خلف، بأن آل خليفة لازالوا يتعاملون مع البحرين، أرضا وشعبا، باعتبارها “غنيمة غزو”، ومن هذا المنظور التفسيري يدعو خلف إلى قراءة الوقائع التاريخية التي سبقت استقلال البحرين عن بريطانيا في ١٩٧١ وما تلاها من أحداث، وصولا إلى اليوم.
في هذا الحوار، يُقدِّم خلف قراءته لمفهوم “الغزو” في سياق العلاقة الجدلية بين آل خليفة والبحرانيين، ويتوقف عند أداوت العزلة الاجتماعية وكيف مورست بغرض إعاقة بناء الدولة الحديثة في البحرين، ويسلط الضوء على الدور الذي قام به رئيس الوزراء الخليفي خليفة بن سلمان في هذا السياق، وكيف استطاع النجاح في المهام التي فشل فيها خليفيون وبريطانيون قبله.
عبد الهادي خلف من مواليد المنامة ١٩٤٥م، درس في كلية الآداب وقسم الاجتماع في جامعة بغداد، وكان من بين أساتذته المفكر المعروف الدكتور علي الوردي. وتخرج من الجامعة عام ١٩٦٦ وسافر مباشرة إلى السويد والتحق بجامعة لوند، وحصل على شهادة الدكتوراه عام ١٩٧٢ ليعمل أستاذا في الجامعة نفسها. عاد إلى البحرين في سبتمبر ١٩٧٣م ودخل المجلس الوطني ضمن “كتلة الشعب” التي تمثل إئتلافا يساريا وقوميا. بعد شهر ونصف أُسقطت عضويته بعد أن برز دور الكتلة التي كان ناطقا باسمها. وتعرّض لاعتقالات عديدة بعدها، وخاض إضرابا عن الطعام دام ٢٩ يوما للمطالبة بإطلاق سراحه، وهو ما حصل في فبراير ١٩٧٥، ولكنه اعتقل مرة أخرى في يناير ١٩٧٦ وبقي في السجن ٣ أشهر ليصدر بعدها أمر بنفيه خارج البلاد. وأسقط النظام في البحرين الجنسية البحرانية عن خلف في نوفمبر ٢٠١٢م، وهو اختار أن يعرّف عن نفسه في (بايو) حسابه بموقع تويتر بقوله: “حمد لا يعترف بي مواطناً وأنا لا أعترف به ملكا”.
* من الأفكار التي تؤكد عليها في قراءتك لعلاقة آل خليفة بالبحرين، هو قولك بأنهم ينظرون إلى البلاد على أنها “غنيمة غزو”، وتتحدث عن موروث الفتح. هل برأيك لازال هذا المنظور التفسيري قائما رغم مرور أكثر من ٤٥ عاما على استقلال البحرين عن بريطانيا؟ ما معالم هذا الموروث اليوم؟
– ما زلتُ مقتنعاً بأن دراسة تداعيات موروث الفتح، وفي مقدمتها اعتبار البلاد “غنيمة غزو”؛ تسهِّل فهم مسار القرنين ونصف القرن الماضييْن، كما تسّهل التعرف على بعض أسباب اختلاف تاريخ البحرين السياسي/الاجتماعي عن الكويت مثلا أو بقية الإمارات النفطية.
إلا إنني حين أتحدث عن “موروث الفتح” فإنني أشير إلى تداعياته في جهتيْن – جهة الغالب وجهة المغلوب. وعليك أن تعود هنا إلى ما قاله إبن خلدون في هذا الصدد. إلا أن المسألة بالنسبة لي لا تتعلق بالتذكير بحادثة تاريخية، بل بما لتلك الحادثة من تداعيات تفعل فعلها في تشكيل العلاقة بين الجهتيْن، وتأثيرها في تشكيل المسارات المحتملة لمستقبل تلك العلاقة. فهذه التداعيات تتمظهر في مختلف مظاهر الحياة الاجتماعية، كما إنها لعبت وما تزال تلعب دوراً أساسياً في تشكيل أنماط السلوك اليومي للعائلة لأغلب أفراد الحاكمة والنخب الاجتماعية ومِن ورائهم الناس، بمن فيهم أنت وأنا.
غنيمة الغزو: من مزارع النخيل ومصائد النخيل.. إلى الأملاك العامة
* ولكن كيف تفسّر هذا الإدعاء؟ هل يمكن أن تشرح كيف تعامل آل خليفة استناداً إلى ما تسميه بـ”موروث الفتح”، وخاصة في تعاملهم مع البحرين -أرضاً وشعباً – باعتبارهما “غنيمة غزو” كما تقول؟
– تأسيساً على “غنيمة غزو”، تمكنت العائلة الخليفية – بعد استقرار الحكم لها – من إضعاف بقية الفئات في البحرين بمن فيهم ورثة القبائل التي أتت من الزبارة للمشاركة في فتح البحرين عام 1869. ومنذ عشرينيات القرن الماضي؛ تمكن آل خليفة من توسيع غنيمة الغزو بالإستحواذ الكامل على مؤسسات “الدولة” ومواردها بالإستناد إلى النظم الإدارية والسياسية التي وضعها البريطانيون لتنظيم الإدارة الحكومية. فلقد اعتبر آل خليفة إن تلك المؤسسات والموارد التي قامت منذ بداية القرن العشرين هي استمرار تاريخي لمزارع النخيل ومصائد الأسماك وعيون المياه التي تم الإستحواذ عليه كغنيمة غزو عام 1783.
منذ 1869 وحتى الآن لم تتغير جوهرياً ممارسات السلطة الخليفية، فهي ظلت تعكس تلك القناعة الراسخة بأن البحرين بمنْ وما عليها هي غنيمة غزو. ولم تضعف تلك القناعة بما مرت به البحرين من تغيرات سياسية وإجتماعية وثقافية وديمغرافية. بل أزعم إنها ازدادت ثباتاً وقوة في ظل تلك التغيرات. فمازال تراث الغنيمة الذي برر الإستيلاء على مزارع النخيل ومصائد الأسماك في القرن التاسع عشر فاعلاً حتى الآن، رغم كل ما شهدته البحرين من تغيرات.
* لكي تكون الصورة واضحة أكثر، هل يمكن أن تقدّم شواهد تاريخية على ذلك؟
– الشواهد على ذلك كثيرة، وسأعطيك منها ثلاثة أمثلة متفرقة.
في 1920 وضع البريطانيون نظام الجمارك في البحرين وفرضوا استيفاء ضريبة جمركية (تراوحت بين 5% و15%) على كل البضائع الواردة إلى البحرين. ما حصل بعد ذلك إن جميع واردات الضريبة الجمركية كانت تذهب مباشرة إلى خزينة الحاكم الخليفي. ومن جهة أخرى كانت البضائع المستوردة باسم أي فرد ينتمي للعائلة معفاة من الضريبة الجمركية (كان تسـجيل هذه الإعفاءات من الضريبة الجمركية جزءاً من عملي حين كنتُ موظفاً في إدارة الجمارك سنة 1963. وأغلب نظام الإعفاء ما زال سارياً حتى الآن). وما حصل لجهة الإعفاء من دفع الضريبة الجمركية تكرّر مع الإعفاء من الرسوم الأخرى، بما فيها مستحقات استهلاك المياه والكهرباء.
وفي الثلاثينيات، وبعد أن دخلت البلاد عصر النفط وازدادت مواردها بإنشاء مصفاة تكرير النفط؛ وضع البريطانيون نظاماً لتقسيم تلك الموارد بحيث يخصص ثلثها لمصروفات الإدارة الحكومية وثلث آخر للعائلة الخليفية والباقي يذهب للإحتياط. ومعلومٌ أن الثلث الإحتياطي هو في الواقع في متناول الحاكم وتحت تصرفه. لم يتغير الحالُ إلا شكلياً بعد إعلان الإستقلال وبعد الطفرة النفطية. ففي غياب الشفافية لا يعرف أحدٌ خارج بؤرة الحكم في العائلة الخليفية ما هي بالضبط حصة العائلة من دخل البلاد من إنتاج النفط وتكريره ومن عائدات الإستثمارات الحكومية في الداخل والخارج.
والشاهد الأخير الذي أود الإشارة إليه يتعلق بما يُرمز إليه بـ “فضائح الإستيلاء على الأملاك العامة”. ومن تلك الفضائح ما أشار إليه أخونا إبراهيم شريف في مرافعته أمام المحكمة في 2012 حول سرقة 65 كلم مربع من أراضي وشواطئ البلاد بما فيها الإستثمارات العقارية في المرفأ المالي وخليج توبلي وخليج البحرين وديار المحرق ورفاع فيوز، علاوة على “أراضٍ لا تعد ولا تحصى تجاوزت قيمتها عشرات المليارات من الدولارات”.
* من المعروف أن هذه الفضائح متداولة بالفعل، ويمكن الحصول عليها بمراجعة التقارير الرسمية أيضا.
– نعم، فضائح النهب والإستيلاء على الأملاك العامة لا تنحصر على المعارضين والأكاديميين ذوي الضمير، بل تتكرر الإشارة إليها وبالأرقام في التقارير الدورية المتتالية التي يصدرها ديوان الرقابة المالية والإدارية الحكومي. إلا أن ما نعتبره نهباً للأملاك العامة ونعتبره لذلك فضيحة أخلاقية وجريمة موصوفة؛ تراه السلطة الخليفية حقاً يستند إلى موروث الفتح وجزءاً جارياً من غنيمة ذلك الغزو. المفارقة تكمن في أن ما قد تعتبره السلطة الخليفية فضيحة وجريمة ليس هو النهب والفساد بل هو تداول أخبار ما يتناقله الناس من أخبار النهب والفساد.
ثمة شواهد كثيرة أخرى وتفاصيل يتداولها الناس. ولعلك سمعتَ ما يُروى عن محمد بن سلمان (عم حمد وشقيق خليفة) الذي تساءل مستنكراً “يه… إيبوﮚ الواحد مُلكه؟”(أيسرق أحدٌ ملكَه؟) حين اعترض مالك عقارٍ سكني أراد محمد بن سلمان انتزاعه. فهم مالك العقار معنى العبارة وقبل الأمر الواقع. أي إن البلاد كلها هي غنيمةُ سيفٍ فما بالك بعقارٍ فيها! ولعلك سمعتَ أيضاً بالمجمع التجاري الذي تأخر افتتاحه لسنتيْن بسبب تعطيل توصيل الكهرباء إليه. ولكن حين قبل أصحابه عرض خليفة بن سلمان مشاركتهم في ملكية ذلك المجمع، بدون مقابل، حصل صاحب القرار على الزرِّ ليصل التيار الكهربائي.
سياسة العزلة الاجتماعية: مواجهة الفضاء العام
* بحكم تجربتك الطويلة، في النضال والاعتقالات والعمل السياسي، عاصرت فترة الاستقلال، وكنت شاهدا على محاولة تأسيس دولة ما بعد الاسقلال. برأيك كيف أصبحت هذه المهة “غير منجزة” حتى الآن؟
– بدأ البريطانيون في العقديْن الأوليْن من القرن العشرين أولى الخطوات لإنشاء إدارة حكومية في البحرين، ومن بينها ما يُعرف بـ “إصلاحات الميجور ديلي”. لم تكن العائلة الخليفية وعلى رأسها عيسى بن على راضية عن تلك الإصلاحات، وحاولوا الإعتراض عليها وتحشيد الناس حولهم ضدها. إلا إن البريطانيين أزاحوا ذلك الحاكم كي يعيِّنوا ولده حمد مكانه لتنطلق آلة العصرنة المطلوبة لمواكبة دخول البلاد عصر النفط وما تولد عنه من أنشطة اقتصادية وما أفرزه من تغيرات.
أسهمَ التحديث الإداري بما يستند إليه من أنظمة ولوائح وما يتطلبه من التوسع في نشر التعليم وما يفتحه من مجالات عمل وما يوفره من خدمات؛ في نشوء فضاء عام بديل للفضاءات العامة المستندة إلى المشترك القبلي أو الطائفي أو المناطقي. تسارع نمو هذا الفضاء العام الجديد بانخراط الآلاف في سوق العمل الجديدة التي فتحتها الصناعة النفطية والأنشطة الاقتصادية المتولدة عنها والمرافقة لها (بما في ذلك بناء القاعدة البريطانية في 1935).
درس كثيرون ومن منظورات مختلفة هذه الفترة المفصلية الممتدة من إصلاحات ديلي بدءً من 1923 إلى اكتشاف النفط في 1932. وصل بعض تلك الدراسات إلى استناجات جديرة بالإهتمام وهي تختلف عما وصلتُ إليه.
تكمن أهمية تلك الفترة بالنسبة لي، ولتسهيل إجابة سؤالك، في إنها أسهمت في إحداث شرخ سيزداد اتساعاً في جدران العزلة الاجتماعية. أهم هذه الجدران كانت العزلة المناطقية (بين الريف والمدينة) والعزلة الطائفية (بين السنة والشيعة). ففي مختلف مواقع العمل في شركة حقل النفط ومصنع التكرير والقاعدة البريطانية وشركات المقاولات وغيرها؛ كان العامل القادم من قرية قلالي (السنية) مثلاً يلتقي بعمال آتون من قرية سار (الشيعية)، كما كان يلتقي بعمال آتون من المنامة والمحرق. أتاحت مواقع العمل تلك فرصاً لم تكن متاحة للتواصل بين أبناء الفقراء ولاكتشاف المشترك بينهم. لم تميِّز ظروف العمل الشاقة في حقل النفط ومعمل تكريره وفي مواقع العمل الأخرى وورش البناء؛ بين العامل الريفي والمديني ولا بين العامل الشيعي والسني. وحين توفرت لهؤلاء ظروفٌ أفضل للعمل في حقول النفط السعودية التحق هؤلاء بها معاً.
* كيف كان يتعاطى آل خليفة مع التغيرات؟ هل كانوا يتجاهلونها؟
– لا يمكنني القول إن آل خليفة كانوا يجهلون مآلات هذه التغيرات. إلا إنهم واصلوا الإعتماد على الوجهاء من التجار ورجال الدين من الطائفتيْن للتحكم في الرعية. وكان للوجهاء تأثير كبير على الناس بحكم علاقتهم بالعائلة الحاكمة. بل هو لا يختلف كثيراً عن تأثير “الوزراء” في عهد عيسى بن علي. فكما كانت وساطة “وزير الشيخ” لازمة للحصول على ضمان أرض؛ أصبحت وساطة الوجيه فيما بعد لازمة للحصول على وظيفة. رغم أهمية دورهم لم يكن للوجهاء مكانة مضمونة. فهم معرضون دائماً لخسارة وجاهتهم. وقد لا يورثها بعدهم أولادهم. فوجاهتهم مشروطة بما يضمنونه من تحكم في الرعية. وفي حين تُجمع الوجهاء رغبتهم في البقاء في مراكزهم فإنهم يتدافعون كلما دعت الحاجة لإثبات من هو الأصلح منهم لتلك المراكز. هذا التدافع بين الوجهاء كان يحدث على مستوى القرية والحي والمدينة والطائفة، وهو ما أعتبره أمضى أدوات التشطير الاجتماعي التي تعاني منها البحرين منذ استقرار الحكم لآل خليفة في عهد عيسى بن على في 1869. فالوجهاء على أهمية دورهم بالنسبة لآل خليفة فليس لأحدهم دور إلا ضمن قرية أو حي أو قبيلة أو طائفة.
بلجريف ودعيج بن حمد: التجربة التي تعلم منها خليفة بن سلمان
* هل يمكن أن تضيء أكثر على سياسة “العزلة الاجتماعية” وكيف ترصد محاولات تعميقها في تلك الفترة؟
– بجانب الإعتماد على الوجهاء؛ أمكن ملاحظة محاولات تبدو الآن خرقاء للتضييق على مجالات العمل المشترك وترميم ما يمكن أن ينهار من جدران العزلة الإجتماعية. من بين تلك المحاولات تبرز بشكل خاص جهود المستشار البريطاني بلجريف في التوظيف الطائفي، من قبيل حشد أبناء طائفة في دائرة حكومية تُعنى بالأشغال العمومية، وحشد أبناء طائفة أخرى في دائرة حكومية تُعنى بالخدمات الصحية. أما أخطر تلك المحاولات وقتها فكانت في 1953 قيام دعيج بن حمد (وهو شقيق الحاكم، بجانب إنه قاضٍ في المحاكم) بقيادة عصابة هاجمت مواكب عاشوراء في المنامة. سقط جراء ذلك الهجوم جرحى وكادت الفوضى أن تعم البلاد لولا الجهود التي قامت بها القيادات الشابة التي برز من بينها قيادة هيئة الإتحاد الوطني في الأشهر التالية. لم تنجح محاولات بلجريف ولم تنجح فتنة دعيج بن حمد. فلقد فات الفوت عليهما. إلا إن ما حاول أن يفعله بلجريف ودعيج ترك دروساً تعلّم منها خليفة بن سلمان منذ أن أتى ليحل محل بلجريف بعد سنتيْن من رحيله.
بتأثير ما أصاب جدران العزلة الاجتماعية من شروخ؛ توسّع الفضاء العام المتاح للتواصل والتنظيم والعمل من أجل تحسين ظروف عملهم ورفع أجورهم ورفع مستوى معيشتهم. ولهذا لم يكن غريباً أن تشهد شركة النفط في ديسمبر 1943 أول إضراب عمالي منظم في تاريخ البحرين. وما هو جدير بالتمعن فيه ودراسته هو أن ذلك الإضراب حقق جميع المطالب التي طرحها العمال في إضرابهم “المشترك”.
* هل يمكن القول بأن هذا الفضاء والأحداث التي سبقته كان له صلته المباشرة في إفراز هيئة الاتحاد الوطني؟ وحبذا لو أضأت على الأهمية التي تمثلها الهيئة في نظرك، ولاسيما مع ملاحظة الواقع الراهن للبلاد؟
– بالطبع، لم تكن المسافة بعيدة بين أحداث 1923 -1932 وما تلاها، وبين 1954 حين تأسست الهيئة التنفيذية العليا (التي تطلب الإعتراف بها تغيير إسمها إلى هيئة الإتحاد الوطني). بل إن الهيئة هي وليدة الهزات التي أحدثتها تلك الفترة. للأسف لم يطل عمر الهيئة سوى سنتيْن، إلا إن آثارها ما زالت باقية حتى الآن. لا أقول ذلك حنيناً لأحداث عايشتُ بعض مظاهرها في صباي، بل لأن قيامها شكّل انعطافة في تاريخ البحرين. فلأول مرة صار الناس من جميع مدن البحرين وقراها يتحركون تحت شعارات وطنية تخطت جدران العزلة الطائفية والمناطقية. وأهمية الهيئة في نظري تكمن أيضاً في إن مطالبها وحراكها أحدثا نقلة نوعية في العلاقة بين الناس والسلطة السياسية. هي نقلة تمثلت في أننا رأينا كيف أصبح ممكناً لفقراء السنة والشيعة مقاطعة وجهاء قراهم وأحيائهم لأنهم موالون لآل خليفة. (وهم طبقوا عملياً شعار “المفاصلة” الذي أدخله الأستاذ عبدالوهاب حسين بعدهم بستين سنة في الخطاب السياسي في البحرين).
مثلت الهيئة أيضاً واللغة التي استعملتها في حراكها القصير؛ نقلة نوعية في الخطاب السياسي. فهي كانت تخاطبهم باعتبارهم “مواطنين كرام” و”شعب مناضل”، بينما كانت السلطة الخليفية تعتبرهم “رعايا” و”جمهورا” و”عموما”.
تستحق دراسة تفاصيل هذه الفترة اهتمام الباحثين الشباب الأكثر قدرة مني على التخلص من أعباء الذاكرة وتحيزها. فهذه الذاكرة وهذا التحيز يجعلاني أرى إنه في هذه الفترة بالذات بدأ الإستقطاب السياسي والإجتماعي في البحرين يتبلور كصراع وطني وطبقي. وفي هذه الفترة بدأ التجاذب السياسي والثقافي في البحرين بين طرفيْن رئيسْين. أحدهما يتمثل في القوى السياسية التي تدعو لبناء الدولة العصرية التي توفر مستلزمات المواطنة المتساوية لجميع مواطنيها. والثاني يتمثل في السلطة الخليفية نفسها التي قد تقبل بإصلاحات تضمن استمرارها كسلطة أمر واقع. (لقد تناولتُ في عدة مجالات الفرق بين الدولة وسلطة الأمر الواقع. وهو فرقٌ يبدو واضحاً حين ننظر إلى إسرائيل كدولة لليهود وإليها كسلطة أمر واقع بالنسبة للفلسطينيين في المناطق المحتلة).
لماذا نجح خليفة بن سلمان في تشطير المجتمع؟
* في هذا السياق، كيف تقرأ الدور “السلبي” الذي لعبه رئيس الوزراء خليفة بن سلمان، آنذاك وحتى اليوم في هذا الشأن؟
– بالنسبة لدور خليفة بن سلمان، فمن الصعب أن نتحدث عن البحرين الحديثة دون الوقوف طويلاً عند دوره. فمنذ أن تولى في 1958 مهمات “سكرتير االحكومة” وخاصة بعد أن تولى في 1960 رئاسة دائرة المالية؛ بدأ خليفة شيئاً فشيئاً يُمسك بيديه بمفاصل السلطة السياسية. فحتى قبل أن يصبح رئيساً للوزراء في 1971 كان قد ثبّت سلطته على الجهاز الحكومي في أثناء عمله كرئيس للمجلس الإداري (1966-1970) وكرئيس للمجلس الدولة (1970-1971). ولهذا لن تجد مسئولاً حكومياً من مستوى الوزير ووكيل الوزارة إلى مستوى مدير إدارة تم تعيينه أو ترقيته خلال الخمسين سنة الماضية دون موافقة خليفة. لم يصبح أغلب هؤلاء صنائع لخليفة أو أدوات طيّعة بيده، ولكنهم كانوا يعرفون سطوته ويعرفون إنه لا يتواني عن قطع أرزاق منْ يعارضه. من صفوف الجهاز الحكومي برز أفرادٌ أسسوا شبكات فساد ترعرعت في حماية خليفة وتدين له بالولاء.
لابد من الإشارة إلى إن إمساك خليفة بمفاتيح الجهاز الحكومي استقوى كثيراً بعد استلامه في 1970 مهمة الإشراف على الأمن الداخلي بعد أن أزاح أخاه محمد من تلك المهمة. وبنفس الأهمية؛ فإنني أعتبر أن توطيد خليفة لعلاقته الشخصية والمباشرة بكبار رجال الدين من الطائفتيْن رغم أنه لا يُعرف بتدينه. إلا إنه يتحكم عن طريق وزير العدل في التعيينات القضائية بما فيها تعيين قضاة الشرع وأعضاء مجلسيْ الأوقاف ومسئولي إدارتيْ الأوقاف. للأسف لم تحظ هذه العلاقة الوطيدة مع رجال الدين من الطائفتيْن بالدراسة رغم إنها شكلت وتشكل أحد أهم مرتكزات قوة السلطة الخليفية في مواجهة قوى التغيير. وما عليك إلا إستذكار الأزمات الكبرى في العقود الأربعة الأخيرة أي منذ صدور قانون أمن الدولة في 1974 ثم حلّ المجلس الوطني في 1975 مروراً بما سميَّ بالمحاولة الإنقلابية في 1979 وانتفاضة التسعينيات وانتفاضة دوار اللؤلؤة وحتى وقتنا الحاضر.
* هل نجح خليفة في المهمة إذن، أعني مهمة “العزلة الاجتماعية” التي تحدثت عنها قبل قليل؟
– بعد أكثر ما يقارب ستين سنة؛ فلا بد من الإقرار بأن خليفة نجح فيما فشل فيه كلٌ من عمه دعيج بن حمد والمستشار بلجريف. فلقد نجح خليفة في تطييف الجهاز الحكومي والمؤسسات العامة. كما نجح في إعادة بناء الجدار الطائفي وتثبيت دعائمه المادية والثقافية.
من بين عوامل كثيرة ساهمت في نجاح خليفة إنه استوعب أهمية رعاية وإدامة موروث الفتح وخطاباته بما فيه أن “البحرين خليفية”، وأنها غنيمة ذلك الفتح. ولقد تطلب ذلك إتّباع خطيْن في نفس الوقت، الأول هو قمع كل خطاب مضاد يطالب بتغيير سياسي أو اقتصادي يتهدد ذلك الموروث من قريب أو بعيد. والثاني هو تشجيع التغييرات تحت ظل موروث الفتح وتسهم في إدامته. (أجدُ هذيْن الخطيْن واضحيْن على أحد أغلفة جريدة محلية صدرت بتاريخ 15/9/1975 أي بعد أقل من ثلاثة أسابيع من حل المجلس الوطني واعتقال مئات النشطاء السياسيين والنقابيين، بمن فيهم أعضاء في ذلك المجلس. تتصدر االغلاف صورة لخليفة بن سلمان في زيارة لمدينة جدحفص يحيط به نائبان وزعيم ديني وآخرون. أسفل الغلاف نقرأ “سمو رئيس الوزراء يبحث مشاكل المواطنين على الطبيعة”. أما في أعلى الغلاف فنقرأ “التحقيق مع أحد أعضاء المجلس الوطني السابق”).
في الجزء الثاني من الحوار..
إسقاط النظام.. وعسكرة البحرين