الدكتور عبدالهادي خلف في حوار مع (البحرين اليوم): “إسقاط النظام” لم يكن غريبا عن أدبيات المعارضة قبل الاستقلال (٢-٢)
البحرين اليوم – (خاص)
لا يُخفي المعارض وعالم الاجتماع الدكتور عبد الهادي خلف ميله الواضح إلى مطلب “إسقاط النظام” الذي رفعه المعتصمون في دوار اللؤلؤة في فبراير ٢٠١١. ويؤكد في الجزء الأخير من الحوار؛ بأن هذا المطلب كان حاضرا في أدبيات التنظميات المعارضة التي سبقت استقلال البحرين، وقبل أن تتدخل السلطة الخليفية لاحقاً لإماتة هذا الشعار، وبوسائلها المعروفة في المغريات.
يذهب الدكتور خلف إلى أن هناك اختلافات جوهرية بين التجربة البرلمانية التي نشأت بعيد الاستقلال والتي كان أحد رموزها، وتلك التجربة التي جاءت في عهد حمد بن عيسى في ٢٠٠٢، وهي اختلافات لا تغيّر من حقيقة أن آل خليفة كانوا – ولا زالوا – يشعرون بالراحة أكثر في ظل الهيمنة البريطانية والاحتماء بها.
مع تجاربه الطويلة، والنضالات التي قدّمها على مدى عقود، وبوزنه الأكاديمي ورؤيته الناقدة التي يصفها البعض بأنها “ثاقبة حدّ الإصابة”؛ يمكن النظر إلى الدكتور خلف باعتباره عميد المعارضة التغييرية في البحرين، وأحد الذين يمكن أن يكون وصْلاً قاطعاً بالتاريخ السياسي للبحرين، وقطعاً واصلاً بواقعها المليء بتكراريّات التاريخ. ولعله من هذا المنظور قد يكون الدكتور خلف من أبرز الشخصيات التي يتوجب على النظام الخليفي والمعارضة السياسيّة على حدّ سواء أن ينصتوا إليه، وأن تكون لأفكاره الحيّز المناسب والمؤثر في ترتيب الأجندة أو صياغة المواقف والقرارات.
- اقرأ الجزءالأول من الحوار مع الدكتور عبد الهادي خلف: هنا
——
* كتبتَ في إحدى المقالات “نعم لإسقاط النظام” وقلتَ بأن هذا الهدف كان حاضرا طيلة السنوات التي سبقت الاستقلال، وأن كل التنظيمات قبل الاستقلال كانت تحلم به؟ هل يمكن الحديث عن ذلك؟
– أشرتُ في إجابة سابقة إلى أن قيام هيئة الإتحاد الوطني في أكتوبر ١٩٥٤ أحدث نقلة نوعية في العلاقة بين آل خليفة والناس بمختلف انتماءاتهم. فمنذ بيانها الأول الصادر في ١٣ أكتوبر ١٩٥٤ برز مساران رئيسان للتجاذب السياسي والثقافي في البحرين، ولكلٍّ من المساريْن تفرعات كما شهدنا طيلة أكثر ستة عقود مضت. إلا أن أحدهما هو مسار تغييري رسمه ذلك البيان رغم صياغته الحذرة، كما رسمه الحراك الشعبي الذي قادته الهيئة حتى قمعها ومحاكمة قادتها في ديسمبر ١٩٥٦. أما المسار الثاني، فهو مسار إصلاحي، يرى ضرورة مسايرة العصر دون المساس بالأسس التي يقوم عليها الحكم الخليفي. أسارع للقول إن غالبية الناس كانت منشغلة بأمور حياتها، ولم تكن معنيّة بتحديد موقعها بين هذيْن المساريْن، إلا آثار التجاذب بينهما كانت تؤثر سلباً وإيجاباً على الجميع.
أود أن أشير إلى إحدى خاصيات التجاذب السياسي في مجتمع صغير سنراها تتكرّر و تفعل فعلها في أعقاب قمع انتفاضة دوار اللؤلؤة في مارس ٢٠١١. لأسباب عدة لم يكن الفاصل بين المساريْن عازلاً بحيث لا يستطيع أفراد من النخبة الإنتقال بيُسرٍ من جانب لآخر أو اتخاذ مواقف لا تغضب السلطة ولا معارضيها. ولهذا كان سهلاً على بعض قادة الهيئة الانسحاب منها كما كان سهلاً على غالبية أعضاء لجنتها القيادية (لجنة المائة والعشرين) الإلتحاق بحظيرة السلطة قبل قمع الهيئة أو مباشرةً بعد ذلك.
جبهة التحرير: آل خليفة صنائع المستعمرين البريطانيين
* وهل ورثت التنظيمات آنذاك، وخاصة اليسارية، المسار التغييري للهيئة؟
– نعم، لقد ورثت شعارات الهيئة التنظيماتُ السرية التي نشأت في ظلها مثل جبهة التحرير الوطني البحرانية أو بعد قمعها، كالمجـموعات التي شكلت فيما بعد فرعيْ حركة القوميين العرب وحزب البعث. إلا هذه التنظيمات السرية لم تكن في حاجة للمخاتلة مما جعلها تنبذ الصياغات الحذرة. ويمكن ملاحظة ذلك بوضوح في رسالة موجَّهة من قيادة جبهة التحرير الوطني البحرانية إلى أمين عام الأمم المتحدة (فبراير ١٩٦٨) في خضم التمهيد للتسوية البريطانية-الإيرانية والتي أدت إلى إعلان إستقلال البحرين. تقول قيادة الجبهة: “إن آل خليفة صنائع المستعمرين البريطانيين لا يمثلون إرادة الشعب البحريني، وإنما هم مفروضون على الشغب البحريني بالحراب البريطانية. وقد أعلن شعبنا بصراحة في أكثر من مناسبة وانتفاضة عدم رغبته في بقائهم”.
كانت تلك الرسالة/البيان من جملة مواقف موثقة وبيانات صادرة عن مختلف تنظيمات المعارضة؛ استندتُ إليه حين كتبتُ في مقالي الذي تشير إليه، وقلتُ فيه “إن شبان وشابات اللؤلؤة (أعادونا) إلى الحُلم الذي حَلِمت به الناس جزءاً مكنوناً في ذاكرتها منذ أن توحدت تحت راية هيئة الإتحاد الوطني قبل أكثر من خمسين سنة”.
* إذن، ما الذي فعله آل خليفة لكي يمحوا هذا الهدف من أجندة المعارضين، ويقنعوا الكثيرين بأن إصلاح النظام، وليس استبداله، هو الممكن والمطلوب؟
– ليس من السهل الإجابة على هذا السؤال في هذا الوقت القصير. هي لم تفعل شيئاً عدا تقديم الوعود والتعهدات إلا إنها اعتمدت على قدرتها على “إقناع” قيادات المعارضة والنخب السياسية بضرورة قبول تلك التعهدات والوعود. حصل هذا بعد الإستقلال وتكرّر بعد انتفاضة التسعينيات. عدا ذلك ليس من ثمة تشابه بين ما شهدته البحرين في ظل التجربة البرلمانية الأولى أي الفترة ١٩٧٣-١٩٧٥ وبين ماشهدته في ظل التجربة البرلمانية الثانية أي الفترة ٢٠٠٢-٢٠١١. (أما التجربة البرلمانية الثالثة الممتدة منذ الانتخابات التكميلية في ٢٠١١ وحتى الآن تحتاج لحوار آخر).
كانت البحرين في ١٩٧٣ أي قبل الطفرة النفطية تختلف تماماً عن البحرين بعد الألفية. لا ينحصر الإختلاف في جوانب محددة، بل يشمل التركيبة السكانية وتركيبة الإقتصاد والظروف السياسية إلى غير ذلك، ناهيك عن القوى السياسية الفاعلة محليا وإقليمياً. كذلك كانت دوافع دخول المعارضة إلى التجربتيْن مختلفة. ولهذا حكمت برلمان ١٩٧٣ تفاصيلُ المواجهة بين السلطة والمعارضة بأطيافها اليسارية والوسط والدينية منذ اليوم الأول لإنعقاده إلى آخر جلسة عقدها. أما برلمان ٢٠٠٢ ومابعده فحكمته رغبة المعارضة في الوصول إلى تفاهمات مع السلطة حول مختلف أوجه الإصلاح المتوخاة. (مرة أخرى، قد يجد الباحثون الشباب في هذه المقارنة موضوعاً لأبحاث ودراسات).
قامت السلطة بحل التجربة البرلمانية الأولى لأنها فشلت في تحويل مجلس ١٩٧٣ من كونه مجلس مواجهة ليصبح مجلساً للحوار والتفاهم. أما التجربة البرلمانية الثانية (أي الممتدة بين ٢٠٠٢-٢٠١١) فلقد كانت السلطة ترغب في استمراها كما كانت ترغب فيه قوى المعارضة التي راهنت على المشاركة في البرلمان. لقد اتخذت السلطة قرار حل المجلس الوطني في أغسطس ١٩٧٥ إلا أن إلغاء مجلس ٢٠١٠ لم يكن قرار السلطة ولا اختيارها. بل هي جاهدت لاستمراره. فمن أسقط برلمان ٢٠٠٢- ٢٠١١ هم أحفاد من سقطوا في ١٩٥٤ ومنْ لحقهم ممن لم يقبلوا أن تصبح تضحيات أجيالٍ متعاقبة ثمناً لمنصب وزاري أو كرسي نيابي أو مقابل زيادة حصة هذه الطائفة أو تقليل حصة تلك الطائفة في الجهاز الحكومي والمؤسسات العامة.
* ارتبط موضوع استقلال البحرين بالعسكرة، أو بالقواعد العسكرية الأجنبية. مع عودة بريطانيا عسكريا إلى البحرين، إلى أي مدى يمكن أن يفسر ذلك طبيعة العلاقة “الخاصة” بين البريطانيين وآل خليفة؟
– تتفق الروايات المعتمدة على إن الفتح كحادثة تاريخية حصل في ١٧٨٣. إلا إن البحرين لم تصبح غنيمة غزو خالصة لآل خليفة إلا بعد ١٨٦٩. وما بين التاريخيْن لم تستقر الأوضاع في البحرين التي تداول الهيمنة عليها في العقود السابقة كلٌ من ابن سعود وسلطان مسقط، كما أسهمت النزاعات الدموية بين الخليفيين أنفسهم في عدم استقرار الوضع في فترات هيمنتهم. ولعل من المفيد الإشارة إلى أنه في عام ١٨٦٩ بلغت النزاعات الدموية بين آل خليفة إلى حد أن يتداول على الحكم ثلاثة منهم في تلك السنة وحدها. لذلك تدخل البريطانيون مباشرة وأولوا الحكم إلى عيسى بن علي ليكون الحاكم الرابع في تلك السنة.
* ما أبرز الاتفاقيات التي رسخت الهيمنة البريطانية على آل خليفة؟
– يمكن النظر إلى التدخل البريطاني في ضوء عددٍ من الإتفاقيات التي فرضتها على شيوخ المنطقة بما فيهم آل خليفة. من بين تلك الإتفاقيات الإتفاقية العامة للسلم (١٨٢٠) والإتفاقية الدائمة للسلم والصداقة (١٨٦١) التي ألزمت شيخ البحرين بعدة التزامات ستستمر إلى إعلان استقلال البحرين في ١٩٧١. فعلاوة على الإلتزام بالإمتناع عن ممارسة القرصنة وتجارة الرق؛ ألزمت الإتفاقية حاكم البحرين بألا يعقد أي إتفاقيات أو يتبادل المراسلات مع أي قوة أخرى عدا بريطانيا العظمى التي تعهدت بأن تتولى إدارة علاقات البحرين الخارجية وأن تمارس السلطة القضائية على الأجانب المقيمين في البحرين. فبحسب إتفاقية ١٨٦١ وما تلاها من إتفاقيات؛ تحولت البحرين إلى مستعمرة دون أن تُسمَّى ذلك. وانحصرت سلطة حاكم البحرين في الشئون الداخلية فيما عدا ما يخص الأجانب المقيمين في بلاده. مقابل كل ذلك، ضمن الحاكم حكمه، وضمن الحماية البريطانية له من أطماع الجيران على ضفتيْ الخليج.
* من قراءتك التاريخية وتجربتك الشخصية لمرحلة ما قبل الاستقلال؛ هل هناك حوادث أو مقاطع معينة تعكس هذه الحقيقة؟
– نعم.. وهنا أعود مرة أخرى إلى هيئة الإتحاد الوطني وما حصل لثلاثة من قادتها الذين تم نفيهم إلى سانت هيلانة لقضاء حكم بالسجن أصدرته محكمة في البديع برئاسة دعيج بن حمد الذي قاد في ١٩٥٣ “فتنة محرم”. قدم القادة الثلاثة استئنافاً ضد قرار الإدانة إلى المحاكم البريطانية. وبعد سنوات من المداولات القانونية قبلت المحكمة استئنافهم مؤكدةً إن البحرين هي مستعمرة حسب الأمر الواقع، و”إن السلطة القضائية في البحرين هي لحكومة صاحبة الجلالة البريطانية”. على ضوء ذلك تم الإفراج عن المرحومين عبد العزير الشملان وعبدعلي العليوات وعبد الرحمن الباكر، ودفعت الحكومة البريطانية تعويضات مقابل سجنهم غير القانوني.
* وكيف كانت العلاقة بين بريطانيا وآل خليفة، هل كان الخليفيون مسرورون بالفعل لهيمنة بريطانيا على البحرين؟
– كان الوضع في ظل الهيمنة البريطانية “مريحا” تماماً بالنسبة لآل خليفة. إلا إن رياح حركة التحرر الوطني التي كنست الإستعمار في مختلف أرجاء المعمورة وصلت أيضاً إلى البحرين وغيرها من المستعمرات وشبه المستعمرات البريطانية في الجزيرة العربية والخليج. فكان استقلال عدن ومشيخات الجنوب اليمني في ١٩٦٧ بداية لإعلان بريطانيا الانسحاب من الخليج. وهو إعلانٌ فاجأ حكام الخليج الذين وصل رعبهم وهوانهم إلى حد إنهم عرضوا على بريطانيا تمويل بقاء قواتها في بلدانهم. ولا أظن إن أحداً فاته سماع حاكم البحرين الحالي يسأل مستمعيه في لندن قبل عاميْن “منْ طلب منكم الانسحاب؟”. حين انسحبت بريطانيا من الخليج لم تُعر اهتماماً لقلق حكامه بل ولم تقبل عروضهم. فليس ثمة علاقة “خاصة” بينها وبين أيٍ منهم. فمثل كل دولة مستقرة فمصالح بريطانيا هي التي تحدد صداقاتها ونوعية تلك الصداقة.