إعلام الثّورة
بدأ إعلام ثورة ١٤ فبراير من “فيس بوك” و”تويتر”، وبعض المدوّنات والمنتديات الإلكترونية. أي من الفضاء الذي لا يملكه زعيمٌ ولا حزب. انطلقت الثّورة واستمرّت، وكان إعلامها الأوّل هي نفسها الوسائل التي لا تنتظرُ قرارا “مدروساً”، أو اجتماعَ مجلس إدارة، أو “مسوّدةً” يُطلَب تحريرها، ومن ثم نشْرها حالاً.
نجحَ هذا الإعلامُ في وظيفته الأولى: إطلاق الثّورة. ومن علامات نجاحه أنّه شجّعَ المتردّدين، وأعطاهم طاقةً جديدةً من القوْل المختلف، كما أنّه أتاحَ فرصاً لا تُعدّ ولا تُحصى للبحث عن الوجوه الأخرى للثّورة، وسهّل على الجميع الوظائف التي يُفضّونها.
المثقفُ وجد ضالّته في الموضوعات الجديدة. مثقفنا، الذي نعرفُ ولا نعرفُ، كان مهووساً بموضوعات الآخرين. حين يُفكّر في موضوع جديد لاختبار قلمه عليه؛ يتحيّر عقله كثيراً، ويفترشُ في العادةِ موضوعاتٍ مُعادَة من الخارج، أو مُعارَة من صندوقٍ قديم. إعلامُ الثّورة ضخّ سيولاً من الموضوعات، ومنها تلك التي لا يجرؤ مثقفٌ تعلّمَ اجترار “اللا مفكَّر فيه” من الآخرين؛ على اقتحامها والتّفكير فيها.
السّياسيّ أخذ من إعلام الثّورة أموراً كثيرة. حينما حلّ الجيشُ السّعوديّ علينا ظنّ سياسيّون كثر إنها النّهاية، واعتقدوا أنّها خاتمة الثّورة، وأنّ على الجميع أن يهدأ تحت عنوان “لقد أثبتم أنّكم ثوّار، هذا يكفي، رسالتكم وصلت. لقد تغيّرت الخرائط، عودوا إلى منازلكم”. إلاّ أن “مختبر الدّوار” امتدّ أكثر، وتداول المدوّنون غير المتحزّبين الأفكارَ والوسائل، وتحوّلت مرحلة “السّلامة الوطنيّة” إلى فاتحة جديدة للثورة.
إعلامُ الثّورة ليس “مانشيت” يُعدّ له برويّة. وهو ليس من النّوع الذي ينتظر “البيانات” وما سيقوله الواقفون بأناقةٍ خلف الميكروفونات.
إعلامُ الثّورة لا يحتاج أن يضخّ مئات الأخبار في اليوم الواحد (كما تفعل مثلا الوكالة الرسمية). هو لا يعملُ وفق المنحوتات اللّفظيّة التي تُحاسِِب ألا تجرحَ مشاعر السّلطة، أو تنتهك قوانينها. هذا الإعلامُ بسيطٌ، عفويّ، ومليء بالصّدمة. يمكن أن يكون مدروساً، ومهتمّاً بالصّياغة اللّغويّة، والتفريع والتّشكيل، ولكنّه مجبولٌ على الميدان والهتافات التي لا تلتزم بالتعليمات التي تُشَر قبل انطلاق المسيرات.
في هذا الإعلام ليست المسألة في العدد، أو الحجم، ولكن في النوع والاستمرار. في هذا الإعلام، مسيرةٌ بمئات الآلاف لها وزْنُ تظاهرةٍ محدودة العدد، لأنّ في الأخيرةِ ثمّة أولئك الذين يباتون في المقابر والخرائب، وتلاحقهم العيون أينما رحلوا، ويُجنّد للانقضاض عليهم مخبرو الداخل والخارج. إعلامُ الثّورة ينظرُ إلى هذه التظاهرة بذات العين – وأوسع قليلا – التي ينظر فيها إلى المسيرات العارمة التي تميلُ مع موازين السّياسةِ وتقلّباتها.
في إعلام الثّورة الخيارات عديدة. الوسائل لا تنتهي. كلّ شيء ممكن. كلّ وسيلةٍ مفتوحة على الممكن. قد لا تستخدمها اليوم. قد لا يكون أوانها قد حان، لكنها مشروعة، ولا خطوط حمراء عليها. لأنّها “ثورة”، وليست منازَلة على الطاولة، أو لعبة شدّ للحبل في أوقات الفراغ.
إعلامُ الثّورة ينحازُ للمهمّشين. للقرى. للشّبان الحفاة. للممنوعين من الشّمس. للمغامرين. الشارعُ أولا، وبعدها المنابر والبيانات والمقابلات. الميدان رقم واحد. وبعده، القاعات والمجالس والسفرات إلى واشنطن ولندن وجنيف.
كلمة أم الشهيد علي فيصل العكرواوي هي “خبر أوّل” في إعلام الثورة. صور آباء الشهداء هي الصّفحة الأولى. كلمة المعتقلة ريحانة الموسوي ليلة محاكمتها هي “الحدث” و”قضية الساحة”. معاناة أبناء المعتقلين والمطاردين، وأيتام الشّهداء.. هي افتتاحية الأخبار وخاتمتها.
إعلام الثّورة مزعِِج. غاضِب. ولكنه أيضاً إعلامٌ حسّاس، لا يُجيدُ التّساهل مع خدْش الكرامات أو الصّمت “الدبلوماسي” مراعاة لسيْر طاولة التفاوض وظروف الإقليم و”الشقيقة الكبرى”.
هو “إعلام الثّورة”، وحين لا يكون على النّحو المذكور أعلاه؛ يُصبحُ “إعلاماً” لأمور أخرى، ليس منها “الثّورة”.