البحرين اليوم – (خاص)
بقلم: محمد ناس
ناشط من البحرين
وأهمٌ منْ يظن أن دولةً كالولايات المتحدة الأمريكية من الممكن أن تتخلى عن بعض مصالحها، ولا أقول كلّ مصالحها. فـ”السياسة هي فنّ السفالة الأنيق”، كما يقول الكاتب المصري أنيس منصور.
السياسة الأمريكية، على وجه الخصوص، سياسة نفعية، لا تعرف غير لغة المصالح والمكاسب، فلا مكان في “سياسات” الدولة الأمريكية مبدأ يعارض مصالحها. وهو أمر عرفناه بوضوح من خلال مواقفها المزدوجة في العالم الإسلامي والغربي على حدّ سواء.
إنّ الحديث عن المصلحة كان -ولا يزال- حجر الزاوية في كلِّ حديثٍ يرتبط بعلاقة أمريكا بالدول الأخرى، وهو ما يُفسّر تكرار عبارة (المصالح) في لغة الخطاب العام وفي التصريحات الإعلاميّة للمسؤولين الأمريكيين، على اختلاف الإدارات التي تحلّ داخل البيت الأبيض. وغالباً ما تتوسّط هذه العبارة لغة التهديد والوعيد، والتي تُؤجّه في الغالب إلى خصوم حلفائها، ما يشرح جانباً من سياسة الانتفاع في العلاقات الدوليّة.
في خطابٍ للرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما قال إن “الولايات المتحدة الأميركية مستعدة لاستخدام كلّ قواها، بما فيها القوة العسكرية لضمان مصالحها الأساسية في المنطقة”، وأضاف: “سنرد على أي تحرك عدواني ضد حلفائنا وشركائنا مثلما فعلنا في حرب الخليج”.
لذلك، قد لا يكون مبالغاً القول بأن النفعيّة الأمريكيّة لا تختلف كثيراً عن منطق “الغاب” و”الهمجيّة”. فقد تقود المصلحةُ العقلَ الأمريكي إلى ارتكاب حماقات وتجاوزات لا حدود لها، وخارج التصوُّر. وربما يصل الأمر إلى “إبادة شعب” بأكمله، وإحراق دولة وتدميرها بالكامل، معنويا ومادياً. ومن حُسن الحظ أن التاريخ لا زال مقروءاً، وما حصل للسكان الأصليين (الهنود الحُمر) في أمريكا ليس خياليّاً إذا رجعنا إلى التاريخ القريب واستذكرنا الهجوم الأمريكي على مدينة هيروشيما اليابانيّة وتحويلها إلى كومة من رماد بعد أن أُزهقت حياة ما يقارب من ٧٠ ألف إنسان في ساعاتٍ معدودة.
إنّ الماضي لا يختلف كثيرا عن الحاضر، ولعلّ رسوخ منطق “الغاب” في العقل السياسي الأمريكي يجعل المستقبل غير بعيد عما حصلَ ويحصل. ثمة وجه قبيح يطلّ في كلّ المواقف الأمريكيّة تجاه البحرين والمنطقة الشرقية من السعودية، وفي اليمن والعراق ولبنان وسوريا، وغيرها من الدول التي تتلاعب فيها سياساتُ “المصلحة الأمريكيّة العمياء”.
ومن الحصيف ألا يُمايز المحللون كثيرا بين إدارة ترامب وسلفه أوباما. فالمؤسسة التي تلتقي مع “المشروع الدّاعشي” هي ذاتها قائمة حتى اليوم. وقد مثلت السفارات الأمريكية المنتشرة في ربوع عالمنا العربي والإسلامي؛ أحد أخطر معاول الفساد والإفساد على مدار السنوات الماضية، حيث أسهمت في ترسيخ الدكتاتوريّات خدمةً للمصالح الأمريكية، إلى جانب نشْرها لأفكار وأيدلوجيات مناهضة للثقافة العربية والإسلامية وعبر فنون “الحرب الناعمة”.
وفي هذا السياق، لم تكن البحرين بمأمن عن غيرها من الدول. فالسفارة الأمريكية في المنامة هي بمثابة “مقرّ عمليات” في المنطقة الوسطى، كما أن المصالح التي تربط النظام الخليفي بالراعي الأمريكي؛ تحتّم على نظام آل خليفة دعم سياسات “المرابي الأميركي” ترامب، وبلا حدود، ومن غير أحياء أيضا.
ولأن المصلحة الأمريكية كانت تستدعي مسايرة الأجواء الثورية في بعض البلدان العربية؛ فقد عملت الإدارة الأمريكية على التعديل في خطابها الإعلامي، فبعد مساندتها لنظامي زين العابدين بن علي في تونس، وحسني مبارك في مصر؛ سارعت في تغيير مسارها، وأطلقت تصريحات ومواقف داعمة – ظاهرياً- لمطالب المتظاهرين في تونس والقاهرة.
إلا أن الموقف الأمريكي تبدّل تجاه ثورة البحرين، علماً أنه لم يكن حاسماً في دعمها أو في الضغط الحقيقي على النظام الخليفي. وبدأ هذا الموقف يأخذ منحى آخر بعد مجيء ترامب، وعلى النحو الذي تبادل فيه الخليفيون مع الأخير أشعارَ الغزل والإشادة. وهذه المعطيات توضّح، على سبيل المثال، سبب إدراج واشنطن لاثنين من النشطاء البحرانيين على لائحة الإرهاب، إتباعاً للتهم المعلَّبة التي يسوقها الخليفيون ضد النشطاء.
لا شكّ أن هناك أسباباً تدفع واشنطن للحفاظ على نظام آل خليفة، ففي المنامة مقرّ الأسطول الخامس للبحرية الأمريكية، ما يجعل البحرين تحتلّ مكانة هامة بالنسبة للسياسات الأمريكية الإستراتيجية في المنطقة. ومن المرجّح، تبعاً لذلك، أن واشنطن ستعارض، دون تردّد، “أي تغيير جوهري في النظام السياسي القائم في البحرين”.
يُضاف إلى ذلك، فإن هناك تأثيراً سعوديا أساسيّاً في تحديد مؤشر العلاقة بين الإدارة الأمريكية والنظام الخليفي. فآل سعود لا يكفّون عن التعبير عن “مخاوفهم” من أن يؤدي تنامي قوة “الشيعة” في البحرين إلى تهديد “المناخ السياسي” المفروض في السعودية. ولهذا السبب، فليس من المستغرب أن يعود آل سعود أكثر فأكثر إلى أحضان الأمريكيين، برغم التصريحات النارية السابقة لترامب وملف الابتزاز بأحداث ١١ سبتمبر. السعوديون يعرفون جيداً أن “المصالح” هي التي تُحرّك السلوك الأمريكي، وليس شيئا آخر.
ويلتقي مع كلّ ذلك أنّ “السياسة الإستراتيجية” التي تُدير العقل الأمريكي هي “القلق الدائم” من توسّع نفوذ إيران، وخاصة في البحرين وجوار السعودية. وبالتالي، فإنّ “مصلحة” تقويض الدور الإقليمي لإيران هي عامل مشترك وغير اعتيادي بين واشنطن وآل سعود، وآل خليفة بالتبعية.
ونظراً لكلّ ذلك، فإنّ الولايات المتحدة لم تقف في وجه تغييرات “جذرية” طالت نُظما تقليدية في بعض الدول العربية، ولكنها لن توافق على حصول ذلك في البحرين، ولاسيما مع تركيبة المعارضة السياسية والدينية فيها، وهي تركيبة لا يستطيع الخليفيون التعايش معها و”تقاسم السلطة والثروة” معها، بسبب الطبع الخليفي القائم على “موروث الغزو”، كما أن آل سعود ينظرون لتركيبة المعارضة البحرانية باعتبارهم “نقيضاً” لهويتهم التكفيرية وأحلامهم التوسّعية، في الوقت الذي لن يفعل الأمريكيون ما يمنع من إشباع الخليفيين والسعوديين بالرغبات، كما أن بناءهم البراجماتي لن يعيقهم عن إزاحة ما يمثل “تهديداً” لمصالحهم الخاصة مع المشيخيات في الخليج.