لماذا عادَ نبيل رجب إلى البحرين؟
هل كان يعني عودة جماعيّة إلى الوطن؟
السؤال ليس حقوقيّاً، ولا سياسيّاً. إنّه سؤال وجودي.
حين خرجَ رجب من سجنه الأخير، بعد قضاء عامين، تردّدتْ على لسانه عباراتٌ مختلفة، تدورُ حول إصراره على البقاء في داخل البلاد، وأنّه لن يغادرها، مهما كانت المعاناة. بدا، للوهلةِ الأولى، إنّه موقفٌ طبيعيّ بالنسبةِ لرجلٍ أضحى محميّاً بقائمةٍ طويلةٍ من المنظمات الحقوقيّة، تجاوزَ عددها المئة. كانت عباراته، في ذلك الوقت، وكأنّها تثبيتٌ لوضعيّة حقوقيٍّ قفزَ بسرعةٍ لافتةٍ واستقرّ في قلوبِ النّاس وعقولها، وما عادَ – بعد ذلك – يملكُ القدرةَ على “خيانة” النّاس، والتخلّي عنهم. كان يُخيَّلُ أنّ رجب، حينذاك، مضغوطٌ بضرورةِ أنْ يردّ الجميل، ولو على حسابِ راحته، ولو أُضطرّ لمعاوَدةِ اختبار تجربةِ السّجن وفقدان الحريّة.
حينما سافرَ رجب، قبل أكثر من شهرين، كان ثمّة شيءٌ من الإرباك يعتريني. قبل مغادرته البلاد، سجّلَ رجب مواقفَ مفاجئة. سارعتُ وقتها لأسجّل علاماتٍ من النّقدِ العفيفِ، وإنّما الحاسم، وقد تُليتْ عليه بلسان زميلٍ في لندن. قبل أن تُقلعَ طائرته نحو مطار هيثرو، وضعَ رجب مسافةً مع “خطوة” التظاهر في العاصمة المنامة، وهي الخطوة التي ثبّتها، قولاً وفعلاً، وكسرَ بها إحدى التابوهات. عُرِف رجب باعتباره “ابناً بارّاً” لمدرسة عبد الهادي الخوّاجة. الأخيرُ علّمنا أنّ الطريقَ إلى “الحقوق” تبدأ بإسقاطِ كلّ المحرَّمات، لكيلا يكون هنالك أيّ مانعٍ، أو ضاغطٍ، يبرّرُ تأجيل حقًّ ما، أو تجميده. الخوّاجةُ كان واضحاً: العملُ الحقوقيّ، في حقيقته، أكثرُ حسماً وثوريّةً من الاشتغالِ بالسياسةِ أو الانشغال بها. لهذا السّبب، تحديداً، استقرّ الخواجةُ على منصّة الدّوار، وشجّعَ النّاس على حقّها في أن تقولَ ما تشاء: “إسقاط النّظام”.
وجدَ النّاسُ في رجب وجهَ أبي زينب، وصوته، وخطوته الثّابتة. قبل أن يُسافر في جولته الأخيرة، كانت تغمرنا أسئلةٌ حيرى. “ليس لديّ طموح سياسيّ”. “لديّ قناعات جديدة بعد السّجن”. “قد أكون مخطئاً، ولكنّي أؤمن بأن دوري بات مختلفاً الآن”. تمرّ هذه المواقف رفقةَ هواجس غير مريحة. مع إقلاع الطائرة، الواحدة تلو الأخرى، ومن بلدٍ لآخر: كان شيئاً ما ينشدّ خارجنا، ويريدُ الاقتلاع! الانشدادُ يشتدّ حين يُعلن رجب إنه يضع “أمْرَ عودته للبلاد” تحت تصرّف رأي النّاس. “لا تعدْ، اعتقالك مؤكَّد”. “انسَ العودة، وجودك هنا يُرعبهم أكثر من الدّاخل”. يشتدّ ذلك الشيء، رغبةً في الاقتلاع من دواخلنا. شيءٌ لا نحبّه، ولا نطيق تصوّره حيال أولئك الذين نحبُّ ونُجِلُّ، وباتوا شيئاً أصيلاً من أشياء ثورتنا.
ولكنه عاد. ساعاتٌ، ويعودُ إلى السجن. تقولُ نضال السّلمان، زميلة رجب، بأن عودته لبلاده – رغم يقينه بما ينتظره – هو تأكيدٌ على خياره الصّادق بألا نتركَ الأرض للضّياع والضّباع. هو ذاته الخيارُ الذي قاله، قبل ذلك، بأنّ على الجميع أن يكون هنا، وألاّ يُخلي المكان، لأن ذلك ما يريده العدوّ تماماً. الأهمُّ من العودة، أن رجب فعلها بعد أن خلّف في شهرين مواقفَ تُعادِل عامين قضاها خلف القضبان: “الوجود السعودي احتلالٌ، ومقاومته مشروعة”. “الجمهوريّة خيارٌ أفضل من الملكيّة”. “الداخليّة حاضنة فكريّة للدواعش”. خطوةُ العودة، لأجل ذلك، كان لها وزنها الذي يُعادِل خطوة النزول للعاصمة، وبأثمان قد تكون باهظة أكثر.
فلماذا عاد رجب إلى البحرين؟
من النّاحية الوجوديّة، هي مسألة لها علاقة بالمقاومة: الدّرس الأول في مدرسة الخواجة. من هذه النّاحية أيضاً، وفي صميم الدّرس ذاته، فإنّ عودة رجب هي مقترحٌ نضاليّ مفتوح، مطلوبٌ النّظر فيه بجديّة، وأنْ يُوضَع أمام الجميع، لتبدأ اللّحظة المناسبة لتكون “عودةً جماعيّة” إلى البلاد؛ “الخطوة الأخيرة” على طريق الثورة وجنْي ثمارها. خطوةٌ قد تصبحُ إضاعةً للذّات، وإهداراً للطاقات، وتسليماً للجلاّد.. لكنّها – على طريقة رجب – يمكن أن تُصبح “الخطوة الأخيرة” المرجوَّة لنزْع آخر غلافٍ يحجبنا عن الحريّة.. الحريّة التي يُضحّي لها، ولأجلنا، ناسٌ كُثر لم يغادروا السّاحات حتّى اليوم، ولن يغادروا.