نموذج الوحش الخليفي
البحرين اليوم – (خاص)
بقلم: نادر المتروك
صحافي وكاتب بحراني
لم يترك أشرارُ بلادي شيئاً مخزيا دون أن يجرّبوه. خلال ستّ سنوات ويزيد من ثورة ١٤ فبراير، اختبر البحرانيون أنفسَهم وسط كلِّ خرائط الفظاعةِ والدّناءة التي تحاصرهم من كلّ الجهات. بجرْدةٍ سريعة، وفي حدودِ بقعةٍ صغيرة، وعلى مدى زمنٍ قصيرٍ من الإحصاء؛ فإنّ المرء يمكن أن ينتهي بتعدادِ قائمةٍ من البشاعةِ التي لا يحُوزها، كلّها، إلا أولئك الذين اجتمع فيهم شرورُ العالم، وتحوّلوا بها إلى وحوشٍ تتقنّعُ بوجوه البشر. آل خليفة ليسوا أقلّ من ذلك. هم نموذجٌ لهذا التشوّه غير المسبوق، أو النّادر، في عالمِ الإجرام والسّلوك الوحشي.
على سبيلِ التّعريف والتمثيل، يمكن فتْح اليدِ والقَدم لتتبُّع ارتكابات القبيلةِ الخليفيّة منذ شهر يونيو ٢٠١٦م، وحتى شهر فبراير ٢٠١٧م (أي أقلّ من سنةٍ واحدة)، للخروج بحصيلةٍ يمكن أن تكوّنَ القائمةَ الكاملة للتعريف بالوحش البشري.
في شهر يونيو، أسقطوا الجنسية عن الشيخ عيسى قاسم، أكبر مرجعيّة دينيّة ووطنيّة في البحرين، وحوّلوه إلى المحاكمة بتهمٍ تتعلق بأداء فريضة الخمس، إحدى الفرائض الدّينية الثابتة في المعتقد الشّيعي، مذهب غالبة سكّان البلاد. لنتذكّر – ولكي ترتسم في الأذهان ملامح الوحش الخليفي – (لنتذكّر) بأن الشيخ قاسم نائبٌ في أوّل برلمان في هذه البلاد، وهو أحد منْ صاغَ دستوره العقدي. لنتذكّر بعدها أن حمد عيسى آل خليفة زاره في المشفى، وطبعَ قبلةً على جبينه، وجلس حمد بين يديه وكأنه عبدٌ مجنونٌ أضاعته قافلةٌ محمَّلة بشواذ المخصيين. وقبله، زاره ابنه ولي العهد سلمان، وفي بيته، وجلسَ القرفصاء على بُعد أشبارٍ من الشّيخ الوقور. لم يتغيّر الكثير، باستثناء أنّ حمد خلعَ قناعَه الشّفاف، ورمى بقفّازه الحريري، وكشّرَ عن الأنيابِ التي كان يُخفيها تحت طبعه الماكر، المليء بالسّواد، والكثير من الدّم.
لا ينقلبُ هذا المنقَلب إنسانٌ سويّ. لا يفعل هذه الشناعةَ حاكمٌ يحترم نفسَه، أو عنده قدْر من الاحترام ما يكفي نفسه. ولكن، ألا يمكن أن يفعلَ أيّ شرير أو غير شرير، في أيّ مكان في هذا العالم، مثلَ هذا التقلُّب في الشّعور تجاه الأشخاص والأشياء؟ هذا ممكن. ولكن – وها هنا الوحشيّة بالتّمام – لم يكتفِ حمد بأن يُغيّرَ مشاعرَه تجاه الشيخ قاسم. لم يكن تقلّبه هو تحوُّل في المزاج، أو تعديلٌ في انحراف البوصلة، أو مجرّد فلتان طاريء في الهوى أو البُغض شاءته الأقدار أو تغيّر الأحوال. لقد أُنْزِلَ على ساحةِ الشيخ قاسم كلّ شيءٍ يُذكّرنا بجرائم الخُنّاس وطباعِ الفجّار، وبطينةِ المخلوقِ الأول الذي تلوّث بالسّوءات: حاصرَ حمد بلدةَ الدراز بالعسْكر والمدرّعات، وأحْكم عليها الخناقَ والطّوْقَ أرضاً وفضاءاً، وأعاقَ فيها سريانَ الحياة وسيلانَ الناس، وسلّط على مداخلها الأراذلَ من المرتزقة ليمنعوا إقامة جمعتها الأكبر في البلاد، ووسّعوا الأسلاكَ، شهراً بعد شهر، وزحفاً نحو مسجد الشّيخ درويش، ثم أرْسلَ سيء الذّكرِ الأوباشَ لاختطافِ كلّ حرٍّ لا يُمازِح في تضامنه مع الشيخ، وتجرّأ على إظهار اسمه ورسْمه في ميدان الفداء. حرَّكَ كريه الصّيت – بين حينٍ وآخر – القتلةَ لإشاعةِ الهلَعِ ونشْر الإرعاب بين المعتصمين، وكأنّه أدمن التسلية في لعبةِ تقطير الموت، وإلى أنْ أفْلتَ الرِّباط قليلاً عن دواعشه المسلّحين الملثمين لتنفيذ غزوتهم القاتلة على المعتصمين، وقت الفجر، وخطفوا ثلّة من الشّبان، وفجّروا جمجمةَ الشّهيد الحيّ حمدان، ثم انسحبوا مثل الشّياطين التي افْتُضِحَ أمْرُها وانْسَلَّ الغطاءُ عن عورتها، وكأن شيئاً لم يكن. وكأنّ شيئاً لم يكن.. نعم. فعلوها وكأن شيئاً لم يكن، وما أقرّوا، وما اعترفوا، بل لاحقوا الضحيّةَ في العناية القصوى، وأحاطوها بالتحقيقِ وما هزّ حياءهم سريرُ الموت وتقلّبُ الرّوح في السّماء، ثم قالَ قائلهم إنه “اشتباك متبادل بين ملثمين ومتظاهرين بالسلاح والحجارة”. منْ يفعل ذلك غير وحشٍ هربَ من جهنم؟!
في المقطع الزّمني المُختار؛ قُنِصت فخريةُ مسلم برصاصٍ حيّ وسط الشارع العام، وقُتِل حسن الحايكي داخل السّجن تعذيباً، وأرْديت إيمان صالحي برصاصٍ فاشيٍّ أمام طفلها. لم يُحاسَب أحدٌ من القتلة. ثم دبّرَ القتلةُ عينُهم فاجعةَ الإعدام للثّلاثة الأخيار. حاكوا الجريمةَ كمنْ يُفْرِغُ كلَّ شرِّه لإدماءِ القلوب، ولإفجاعِ الأحاسيس، في كلّ ثانيةٍ وكلّ دقيقةٍ، وبلا نهاية. ثم فعلوها بثلاثةِ أحرار آخرين. وما كفاهم! هم ليسوا قتلةً طارئين. هم أُصلاءُ في القتْل، ولذلك استهدفوا ذكرى الشّهداء، ونالوا من أهْليهم، فدفنوا الشّبان عنوةً، بلا تشييعٍ أو مراسم لائقةٍ يتدفّقُ فيها النّاسُ بتعابيرهم المعتادة في الوفاء. ثم ختموها بقتْلٍ خُطّ بإتقانٍ لا يعرفه إلا هؤلاء. قتلوا الشّابَ عبدالله العجوز، ثم قالوا ما قالوه في غيره: هربَ، ورمى بنفسه من علوّ، ومات! ثلاثة، ثم ثلاثة فثلاثة، وواحد. عشرة قتلى في أشهرٍ معدودات. قُتِلوا بكلّ الفنون التي تخطر على الوحوش، في البرّ والبحر. داخل السّجن وخارجه. بالرّصاص وبالسّياط والأعقاب. شباباً وشابّات.
هل في هذا العالم بقعةٌ، كبيرة أو صغيرة، تتغطّى كلّ يومٍ، نهارا مساءاً، بأطنانِ الغازات السّامة، وعلى مدى ستّ سنواتٍ، بالتتالي، والتساوي، والاكتمال؟ هل ثمّة تنينٌ من الإنس أو الجن يستطيع أن يُخرِجَ من فمه النّاري هذا القدْرَ القَذِر من السموم والنيران؟ احْسبُوها بالكيلومتر المربّع، وبالأشهرِ المُختارة، وبعددِ السّكان الأقلّ حماسةً للحياة.. أيوجد شعبٌ بهذا الإتّساعِ والكثافةِ تُصارعه جيوشٌ ستّة، ويزيد، ثم يخرجُ في الشّوارع بالأكفانِ، صغارا وكبارا، نساءا ورجالا، وعلى الامتداد الذي تتوزّعُ فيه حواجز الفتْكِ، ويعلنُ رفضَه التنازل والعودة للمنازل، واستعدادَه للموت، وهم يعلمُ أنّ حسابات الظّاهر لغير صالحه، وأنّ فنونَ الممكن كلّها خاسرة! ثم أعيدوا البصرَ كرَّتين، وفتّشوا عمّن عجزَ وتضعضعَ، وعلى وجهه خرَّ وتمرّغَ، وتحت هيبته المُسالة في التّراب خابَ وتراجع؟