مقالاتنادر المتروك
نقد المعارضة
لم يعد نقد المعارضة (من يسارها إلى يمينها) أمراً يخشاه أحد. يقول لي الدكتور رياض الصيداوي بأنّ أكثر المتواجدين في السلطة التونسيّة اليوم هم أصدقاء له، يوم كانوا معارضين، وهو اليوم يتجنّب التّواصل معهم، ويقول لهم: “حين تُصبحوا معارضة، يكون لنا لقاء”، ويُضيف أنّه كان ينتقدهم حين كانوا معارضة، أكثر من الآن، وقد أصبحوا في السّلطة.
نقد السّلطة يمكن أن يكون “بطولة”، وقد يكون سبباً في خسران الحرية أو الحياة أيضاً. ولكن، يمكن أن يكون نقد السّلطة، أيضا، “لعبة”، يتمّ امتهانها بغرض الوصول إليها. نتذكّر أحدهم وقد تدحرجت عمامته على بلاط “صاحبة الجلالة”، وكيف انطلقت مسيرته من “نبض المجتمع”، ثم “كسْر التابوه”، ليختمها باسترخاء الأفندي مع “قهوة الصّباح”. بدأ صاحبنا بالشّعر الثّوري، والدّوس على “علم الاحتلال”، وتحلّق حوله المريدون تحت “المنبر”، ثم كان ما كان، وتوزّعت الأرزاق والعقارات.
نقد المعارضة أيضاً قد يكون “لعبة” للوصول إليها، والتنعّم بنعيمها المؤجَّل. قليلون الذين يمارسون نقد المعارضة من غير رغبةٍ فيها، أو رغبةٍ في التكسّب منها. وحدهم روّادُ الفضاء الإلكتروني الذين يُلهمون المرء بالنّقد الذي لا يرحم للمعارضة. يستأنسون بقناع “الأسماء المستعارة”، ويفعلون فعلتهم المفتوحة، وبلا تحفّظ، في المعارضة ورجالها. أقلّ من هؤلاء منْ لم تأخذتهم الرّهبة، ولا بحبوحة المنفى، وأرسلَ نقوده للمعارضة، ومن غير قناع مُستعار، ليبوح بأخطائها، وكوارثها، والتي لا تُحصى عادةً. نستذكر مثلاً، المدوّن المعتقل أحمد العلوي.
قليلون منْ يُجيدون نقد السلطة. كثيرون يشتمونها، بما تستحق. قليلون منْ يجيدون نقد المعارضة. كثيرون يلعنونها، بما تستحق وما لا تستحق.
كان غياب نقد المعارضة (يسارها ويمينها) سبباً في بروز العاهات والأدواء في جسم المعارضة (أو المعارضات). غابَ النقدُ، وحضرَ النّفاقُ. غابَ النّقدُ، وتجمّعت الطّفيليّات. غابَ النّقدُ، وربحت السّلطة.
عبد الوهاب حسين، شافاه الله وفرّج عنه، قال ذات مرّة: “اعطني نقدا، أعطيك نصراً”. وهو يعني نقداً من نوع آخر؛ النقدَ الذي أسّس له “مجلس الثلثاء” تحديداً. في هذا النّقد، لكَ أن تقول ما تشاء، وأن تنبش في “الممنوعات”، وأن تضع الجميع فوق المشرحة. ولكن بلا بذاءات، ومن غير إدّعاء بامتلاك الصّواب واحتكاره، وبروح البناء. هذه الأخيرة “روح البناء”، لم يفهمها كثيرون، وبعضهم استخدمها أداةً لإرهاب النّاقدين، وإسكاتهم. ليس مطلوباً لمنْ ينتقد “الوفاق”، مثلا، أن يأتي ببديل عنها. من الخطأ أن يُرفَض نقدٌ يُوجَّه إلى “تيار الوفاء” بدعوى أنّ صاحبه”لا يملك تاريخاً نضالياً” ولم “تعركه السّجون والميادين”.
نقدُ “الوفاق” ولّد “حق”. نقدُ “اللجان الأهليّة” ولّد “تيار الوفاء”. نقد “الحقوقيين والجمعيات”، ولّد “ثورة”. والمطلوب اليوم نقد “الثّورة”. ولكن أيّ ثورة؟ وبأي نحو؟ ولماذا؟
ليس لدينا ثورة واحدة. وتلك ميزة، وليس عيباً أو مشكلة. الجمعيات المعارضةتتحدّث عن “ثورة” (وإنْ بعد تمنّع وتخفّف). وقبالها، هناك “القوى الثّوريّة”. ثورة الجمعيّات نسخة مُكرَّرة (وبتعديلات طفيفة) من أطروحة “المقاومة من داخل القلاع”، أي أنّها ثورة اللا ثورة. أما القوى الثوريّة، فهي تُحاكي ثورةً يقودها الجمهورُ والشّبان، ولا تصنعُ مساراً للثّورة، أي أنّها قوى بلا “مانفيستو”. “ميثاقاللؤلؤ” يفعل شيئا من “البيان الثوري”، ولكنه يؤدّي وظيفة “إرضاء الذات الثّوريّة”، كما تؤدي “وثيقة المنامة” وظيفة “تأميم الموضوع الثوري”. يستفيد”الميثاق” من خزّان المعاناة لضخّ الوهج الثوري الدّائم، وتستفيد “الوثيقة” من الغطاء الشّرعي لتحريك السقوف، فوق تحت، والإبحار عبر المناورات العبثيّة.
الثّورة، بطبقاتها وأطيافها، تحتاج نقداً يُريها أخطاءها وانتصاراتها، ويضع أمامها الأبطالَ الحقيقيين الذين يضعونها على أكتافهم أينما رحلوا، جنباً إلى جنب الأبطال المزيّفين الذين يتكسّبون بها، بعد أن تورّطوا فيها. وتلك مهمةٌ لا تحتاج إلى “إشعال فتنة”، ولا إلى الانشغال عن “العدو الحقيقي”. يمكن إنجاز هذا النقد بقليلٍ من الإثارة، وبصمت أيضاً. يمكن أن نتعلّم، مثلاً، هذا الدرس النقدي من متابعة”المشهد الثوري” الذي يُنجَز عبر تظاهرات البلدات، ويُكتب في اللافتات وعلى صهيل الهتافات.