من أحاديث “#العصفورة_الشريرة”: في أحوالِ الصّحافة والصّحافيين (٦)
حسن كاظم – كاتب بحراني | خاص البحرين اليوم ..
أوجعني رأسي في الأيام الماضية، حيث ظلّت العصفورةُ تحنّ عليّ لكي أدرّبها على فنونِ الكتابة. كرّرتُ عليها أنّني لا أطيقُ صبْرا على تعليم الآخرين، وليس من مزاجي أنْ أُملي على النّاس وأكون مرشدا لهم، لا في الكتابةِ ولا في السّياسةِ ولا في المطبخ، ولا في أيّ أمور أخرى. لكنّها لم تتركني، وأخذتْ تلاحقني، إلى أنْ رضختُ، وبدأتُ معها الأسبوع الماضي دورةً خاصّة في الكتابة للصّحافة والإعلام، واستهلتها بدرسيْن اثنين.
الدّرس الأوّل: تحريكُ القلم على الورق. ابعدي عنّك اللابتوب أو الآلة الكاتبة. لابدّ أن تعيشي أوّلا علاقة خاصّة مع القلمِ والورق. أن تشعري بأنّ يديكِ، عروقك، ودمكِ.. هي التي تكتب، وأنّ ما يخرجُ هو شيءٌ منكِ، يتجسّد على الورق، ويُفصح عنّكِ لا عن غيرك. هذا الورقُ هو أنتِ، ولا أحد يملكه غيركِ وليس لأحدٍ الحقّ في التحكّم فيه. هذه الملكيّة لا تمنحكِ إيّاها الكتابة عبر الكومبيوتر أو آلات الكتابة الإلكترونيّة. هذه الأشياء تسلبُ منكِ أشياء وأشياء. من المهمّ أن تلمسي هذه القيمة، لأنّ ذلك ما سيجعلُ من الكتابة أثمنَ من مجرّد مهنةٍ تبغين منّها المال، وبيْع العواطف الفارغة، وشراء الشّهرة. جزءٌ من أسباب تفاهة الصّحافة عندنا هو أنّها وليدة الآلة، وما يمليه الرّيموت كونترول. هذا النوعُ من الصّحافة والإعلام – في الغالب – نتاجُ الأفكار الجاهزة التي يقترحها علينا العم سام (= العم غوغل) والحساباتُ التي نتابعها على تويتر أو فيس بوك، والأخبارُ المعلّبة من وكالات الأنباء، وكلّ هذه تخضع لإدارةٍ (جهنميّة) هدفها برْمجة العقول والمشاعر، واتجاهات الأقلام ووِجْهتها. تعرفين من ذلك لماذا نحن ضحايا دوائر فارغة لا تنتهي، وأنّ النّاس رغم ذلك تستقبلها بكلّ امتنان وشغف، لأنّها تراها مكسوّة بفخامةِ الأشكالِ والأجهزةِ وأضواءِ الاستوديوهات.
“جميل.. جميل. أنت الآن تجعلني أنتعشُ بالأفكار الكبيرة، وأفهمُ أكثر، ولكن هل من أمثلةٍ توضيحيّة على هذه النّقطة، ومن واقع الصّحافة والإعلام؟”. لن أذكرَ أمثلةً تفصيليّة الآن، والأيّام بيننا، ولكن ما أريد قوله هو تنتبهي إلى أنّه ليس مهمّا ما يكتبه غسّان الشّهابي، أو ما كان يكتبه محمد فاضل، على سبيل المثال، أو ما ينشره الصّحافيّون الجُدد من منتسبي جمعيّة الصّحافة، من مدوّناتٍ وصورٍ أرشيفية وتعليقاتٍ حول أحداث العالم.. ولكن المهم أن تكتشفي إلى أيّ اتّجاه تأخذكِ هذه الكتاباتُ والمدوّناتُ والتعليقاتُ والمنشورات، وهل تشعرين أنّها مكتوبة بأقلامهم، وبأيديهم.. هل هي ملكيّاتهم فعلا، أم أنّها عملٌ أوتوماتيكيّ، تُميله المهنةُ، والحاجةُ، ووقتُ الفراغ، ومتطلباتُ الخضوع لبرنامج “حماية شهود الزّوْر”. تفاصيل كثيرة، وبالأسماء كما تحبّين دائما، سوف نؤجّلها إلى الوقتِ المناسب. لكن الآن رأسي بدأ يصدعني، وأنا أمِلُّ بسرعةٍ من كثرة الشّرح والدّورات التّعليميّة.. “سلامتك يا أستاذ.. أتمنى ألاّ أكون سببا في صداعك أو تسلّل المللِ إليك.. وكلّ ما أريده أن تُكمل الدّرس الثّاني.. وسأكتفي اليوم”.
هذا الكلامُ المزرْكش أضافَ عليّ، فوق الصّداع والمَلل، شعورا سيئا آخر! لا تناديني بـ”الأستاذ” أو بأيّ لقبٍ آخر، فهذه لعبةٌ أفهمُ مغزاها الشّرير، ولا تنطلي عليّ. ولا تهزّي ذيْلك أيضا، أنا أراه الآن وهو يتمايلُ مثل صحافيّة شمطاء! على أية حال، سأختمُ كلامي معكِ بالدّرس الثّاني وهو: إنّ الكتابة بذاتها ليس فعلا كماليّا. بمعنى آخر، إنّ إتقان مهنة الكتابة لا يعني أنّ الكاتبَ بلغَ الكمالَ واستوى في كلّ الأحوال على كلّ الأحوال. بمعنى ثالث، يمكن أن يكون المرءُ بارعا في الكتابة، أو الحديث عبر الإعلام، ولكنّه قد يكون إنسانا قبيح الخُلق مع النّاس، أو سيئا مع أهله، أو صاحب علاقات محرّمة، أو مدمنا على الكحول، أو مرتبطا بجماعاتٍ حزبيّة أو أنظمة استبداديّة يعشعشُ فيها الرّياء والإقصاء وأمّ البلاء. عليكِ أن تفرّقي وتفْصلي هنا جيدا.
أغلب النّاس لا يملكون القدرة على الفصْل بين أن يكون المرءُ مبدعا في الكتابة، وبين أن يكون في مقام أخلاقيّ وفكريّ ليصبح رمزا عموميّا. أنْ تكتبَ جيدا، أو تملك سحْرَ الشّاشة، أو التّلاعب بالمستمعين عبر الرّاديو؛ لا يعني أنّك امتلكت أهليّة تمثيل النّاس. ولأنّنا لا نفرّق في هذا الموضوع ترين كيف نقع في الأخطاء المكرّرة، فنرفعُ على الأكتاف منْ يكتب ما يسرُّنا، ونحوّله دون مَهْلٍ إلى رمز أو بطل. ولا نصحو من هذا الوهم إلا حين نتفاجأ بهذا الكتاب وهو يعتلي على كرسي مصنوع من جماجم النّاس وعذاباتهم. هل تذكرين ضياء الموسوي؟ عندما كان يكتبُ في صحيفة الوسط عمود “نبض المجتمع”، وجد النّاسُ فيه ما يعجبهم، وظنّوا أنّه منقذهم، فتدافعوا عليه في مجالس الخطابة، وأصبح رمزا عليما يُنْزِلُ السّكرةَ عليهم حين يتكلّم ويكتب! وعندما استوى على الكرسي، وارتفعت الأسهمُ والعقارات، باع النّاس بلمح البصر، وغيّر جلدَه وكأنه يغيّر سرواله الدّاخلي!
أمثال ضياء كُثر، ولا أريدُ أن أحْرجَ أحدا وأذكر أسماء أخرى، ولكن الأمر مثل صوت بدرية عبداللّطيف في الإذاعة، الذي يُشبه في نقاوته الّطقسَ المبلّل بندى ليلِ المحرّق. ولكنّها ليست أكثر من صوتٍ جميل عبر الأثير، ولا أثر لها خارج المذياع إلاّ بما تضيفه من قدراتٍ أخرى غير صوتها الأخّاذ. هناك فرْق بين كريمة زيداني، رحمها الله، التي كانت تنقلُ لنا الأخبار والبرامج المعدّة لها، من غير أن تمارس علينا سطواتٍ أخرى، وبين عبدالجليل الطريف، الذي أراد أن يتمدّد خارج استوديو الأخبار، فتأبّط مجالس الشّيوخ والأمراء. هو نفسُه الفرْق بين قاسم حسين، الذي خرجَ بخزّان كبير من سنوات السّجن، وشكّل قلمَه بنحوٍ جيّد، وبين أصباغ المكياج التي تستعملها تمام أبو صافي لتتحوّل من صحافيّةٍ إلى حرباء. فرِّقي دائما بين جودةِ الكتابة، وبين جدوى أنْ تهتفي باسم هذا الكاتب أو ذاك.