من أحاديث “#العصفورة_الشريرة”: في أحوالِ الصّحافة والصّحافيين (٢)
حسن كاظم – كاتب بحراني | خاص البحرين اليوم ..
في فجرٍ بارد، وقبيل طلوع الشّمس، تسألني العصفورة الشّريرة: “لماذا يرتدي فريد أحمد حسن حذاء أبيضَ اللّون؟ هل للأمرِ علاقة بشاربه، أم بوظيفته الحقيقيّة أيّام صحيفة الوقت؟”. هذه الأسئلة تعجبني بحقّ، وتذكّرني بأشياء صغيرةٍ لا ينتبه لها كثيرون، رغم أنّ لها معنى كبيرا، طبعا من زاويتي “غير البريئة” في النّظرِ للأشياء. مثلا، لا يتوقّف كثيرون عند تحليلِ أبعاد “الجاكيت الجِلْدي” الذي يُحبُّ ضياء الموسوي ارتداءه، والتغنّج به، وخاصّة عندما يكون في جوّ باريسىّ خاص.
مثالٌ آخر من عالم آخر: “صلعة” صحفي وجد نفسه في المنفى، هي إشعارٌ وشعارٌ مُكرّر (من البحرين إلى السّعودية والعكس) بما ترمزُ إليه “صلعة” حسن المصطفى: هواية التّزحلق في الكتابةِ “تحت الصّفر”، من “العربي” إلى “العربيّة”، والتّنقّلُ الأملسُ من التلبُّسِ (في المعارضة التي يشتهي) إلى الالتباسِ (مع المعارضة التي يشتكي) إلى التّيبُّسِ (ضد المعارضة التي تبتلي) إلى الأبلسة (ضد المعارضة التي يكره). هذه الملابسُ والأشكالُ هي هويّاتٌ أخرى للصّحافيين، أو علاماتٌ “ماديّة” للإشارةِ إلى معانٍ غير مباشرةٍ تترافقُ (وتتوافقُ) مع ما يمثّلونه في كتاباتهم، وفي طريقةِ ظهورهم الإعلاميّ، وفي قصص تحوّلاتهم على سُلّم (وتحت سُلّم) الصّحافة.
“هل بدأتْ تُوجّه السّهامَ يمينا وشمالا؟ أهذا وقتٌ مناسبٌ لنقدِ الأصدقاءِ والرّفاق والأخوة؟!”. لن تخدعيني أيّتها الشّريرة بهذه اللّكنةِ الخبيثة في السّؤال، فأنتِ أكثر منّي رغبةً في توسيع أسِنّةِ الكلام، وأعلمُ أنّ ذيْلكِ يتمايلُ أعلى وأسفل كلّما أوقعتني في هذه الحفرة. أحذّركِ! إذا استمرّ ذيْلُكِ في التّمايلِ فسوف أغلقُ النافذةَ عليكِ، وأترككِ في الخارج إلى أن تجمدي من البرد. “لا..
لا أرجوك، سوف أُخْفي ذيْلي، وأضعُ على منقاري ريشةً كبيرة حتى لا أزعجكَ مرة أخرى”.
حسنا، أعرفُ أنّ عقلكِ يا عصفورة يتحرّكُ في أماكن أخرى عندما ينفلتُ لساني في أحوالِ الصّحافة والصّحافيين.. ولكن عليكِ أن تُقلعي – وأنتِ معي – عن تخيُّل الأشياء الشّريرة. إنّني كلّما أراكِ على هذه الحال؛ أتذكّرُ فوّاز الشّروقي، هذا “الفهلويّ” الذي هندسَ الطّريقَ السّريعة للوصولِ من خلال الصّحافة إلى المناصبِ العليا. قبل أكثر من أسبوع؛ تحدّث الشّروقي في محاضرةٍ بعنوان “تاريخ المعارك الأدبيّة الصّحافيّة في البحرين”. عندما قرأتُ العنوان؛ لا أدري ما الذي جعلَ عيني تقرأ كلمة “المعارك الصّحافيّة” وكأنّها “السّرقات الصّحافيّة”! صدْقا، خُيّل لي أنّها “سرقات” وليس “معارك”، إلى درجةِ أنّني شككتُ في عيني، ومسحتها مرارا، وحينما تأكّد لي أنها “معارك” وأنّ اللاّ وعي عندي قرأها “سرقات”؛ تذكرتُ “الدّروس الثلاثة في تاريخ الصّحافة” كما برعَ فيها الشّروقي، رغم حداثة خبرته في الصّحافة. فيمكن أن يصلَ أيّ كاتبٍ وصحافيّ، وبسرعةِ الصّاروخ، إلى أعلى المناصب؛ عندما يتفنّن ويتجمّلُ في أمورٍ ثلاثة: أنْ يكتبَ كثيرا حتّى يختلط ما يسرقه من الآخرين بما ينشره عن الآخرين. هذا يعبّرُ عن احترافِ فنِّ السّرقة. الأمر الثّاني: أنْ يحلقَ اللّحية بعد أن يشبعَ من “الجماعةِ” التي ينتمي إليها، ويُصبح جاهزا لأداء حركاتِ “الجمباز”. هذا يؤشّر على فنّ التّحوّل والتّلوّن. أمّا الأمرُ الثّالثُ فهو أنْ يكون في خدمةِ “وليّ النّعمة”، وأنْ يبلغَ الولاءُ معه إلى أسفلِ الحدود وأدْناها ولو كان شبه أمّي و”أهْبَل” مثل وزير التّربية ماجد النّعيمي. هذا يدلّلُ على طبْع التسوُّل والتذلُّل. حدثَ ذلك مع فوّاز تحت عيْنِ وسَمْعِ فريد أحمد حسن، وحين وقعَ فوّاز في الخطأ القاتلِ وانفضحَ أمرُه الشّنيع؛ اهتمّ فريد بحمايته، ووفّر له طريق “الخروج الآمن” من الجريدة.. وكان يا ما كان وأصبح فوّاز مديرا للإعلام في وزارةِ
التّربية.
لحيّةُ فوّاز – قبل تصفيرها – كانت تؤدّي ذاتَ دوْر عمامةِ ضياء الموسوي قبل خلْعها: الانتسابُ إلى الجماعة، ثم الخروجُ عليها بعد جمْعِ أسرارها وتخريب بيوتها، وصولا إلى التّسبيحِ والتّبخير، شعْرا ونثرا، باسم ملك البلاد وأصحابِ السّمو وورثة الزْعامات. إنّ حذاءَ فريد الأبيض وشاربَه الأسود (المصبوغ).. يرمزُ لشغلهِ الأساسي، أي “كتابة التّقارير” وإرسالها إلى “الديوان”. الشّاربُ الأسود في الأعلى، والحذاءُ الأبيض في الأسفل: هي من علامات أغلب كتّاب “الجمبزة والتّقارير”، حيث تلعبُ هذه الثّنائية (ما بين الأعلى والأسفل) المعادلَ الموضوعي للتّناقضاتِ والتّنقلات، والخرائبِ والشّوائب التي تشيعُ في كتابات هؤلاء. وأكاد أزعمُ أيّتها العصفورة أنّ كلّ “كتبة التّقارير”، منّا ومنهم، من “الأخيارِ” ومن “الأشرار”؛ يشغلُهم ويُشاغلهم التشبُّبُ والعنايةُ بالوجهِ واقتناء أفخرِ الأحذية (والجوارب أيضا). إياكِ أن تحرّكي ذيْلك، إياكِ! “عذرا عذرا.. لقد ضربت العبارةُ الأخيرة رأسي الصّغير، فاهتزّ آخر ذيلي، ولكنّي أمسكتُ نفسي الأمارة بالسّوء، ومنعته من التّمايل”.
على أيّة حال، في المرّاتِ المقبلة ستعرفين وتفهمين أكثر، وستكتشفين أنّ أسماء برّاقة تركبُ ظهورنا وهي لا تعرف أبجديّات الكتابةِ والإعلام، وأن هناك منْ يريد أن يوزّع علينا براءات اختراعه للحريّةِ والموضوعيّة الإعلاميّة وهو واقعٌ “من ساسه لكرياسه” في الإعلامِ الحزبي، وفي صحافةِ “الشِّلَل” و”الرَّبُع”. لكن، الآن، كلّ ما عليكِ أن تأخذيه في الملاحظةِ هو أنّ الصّحافة والإعلام ليست دائما سُلطة رابعة ولا خامسة، ولكنّها يمكن أن تكون بالفعلِ سُلْطة فعّالة ومحايدة، ويمكن أن تكون سَلَطة، وفي هذه البلادِ أغلبُ الصّحافةِ والصّحافيين والإعلام والإعلاميين، من الشّمال واليمين؛ هو سَلَطات.. زلاطة في زلاطة!