ملف: الانتخابات في البحرين: مختبر المواقف ومحكّ الثوابت (3 والأخيرة)
المحتوى
- السباحة عكس التيار.. وابتلاع النتيجة: “صفر 2010
- الانسحاب من المشاركة: تلبية نداء الثورة.. وصراع الضغوط (2011)
- المقاطعة الثانية: رافعة الموقف المرجعي.. ومحكّ الثوابت المعلنة (2014)
[divide]
المرحلة الثالثة: المشاركة الثانية..
السباحة عكس التيار.. وابتلاع النتيجة: “صفر 2010
جاء قرار المشاركة في انتخابات 2010م صادماً لكثيرٍ من أولئك الذين توقّعوا أن تتوجّهة المعارضة، وعلى رأسها جمعيّة الوفاق لإعلان المقاطعة، وذلك – على الأقل – انسجاماً مع إعلان قيادات بارزة في المعارضة بأن التجربة الأولى للمعارضة في البرلمان كانت “فاشلة”، فضلاً عن إحساس المعارضة، بالتفصيل، بامتداد القمع الخليفيّ على أكثر من مستوى، كما شهد على ذلك قمعة أغسطس 2010، والتي كانت إحدى النماذج على القفاز الحريريّ الذي كان يرتديه الخليفيون وهم يرتكبون أبشع جرائم الاستبداد، ونهش أصالة التركيبة السكانية في البلاد.
حصيلة التجربتين 2006 2010 كانت متماثلة، إلا أنّ قرار المشاركة في انتخابات 2010 كان أكثر جرأة، ولاسيما مع اتساع نطاق الشرائح التي “كفرت”، ليس بتجربة البرلمان الحاليّ، وإنّما بإمكان إصلاح النّظام. وقد كان من الطبيعي أن يُعلن أبرز صُنّاع الممانعة، سعيد الشهابي، تدشين الانتقال إلى المواجهة إلى حمد عيسى الخليفة، واعتباره “الشخص” المعني مباشرةً بالاحتجاج، وأن مشروعه بات “تخريبياً”، وفي كلّ المجالات.
الشهابي في إصداره الثالث حول المقاطعة، والذي أخذ عنوان “لا تكن ظهرا لغيرك” (أكتوبر 2010م)، عاود الوقوف عند المنطلقات التي حكمت المشاركة في 2006م، وأظهر أنها لم تفضِ إلى النتائج التي استندت عليها، سواءاً على مستوى المنطلق السياسي أو المصلحة (الشرعية)، وهو ما يعني أن ثمّة خللاً أصيلاً في بناء المنطلقات والمقدمات، وهو ما يُنتج بالتالي الخلل في النتائج والتوقعات.
المقولة التي استخدمتها أوساط الممانعين لنعت المشاركين كانت مليئة، بدورها، بالأحكام المطلقة، حيث وُصّفوا ب”المسايرة”، وهو وصفٌ لم يقبله المشاركون، واعتبروه تنميطاً آخر لعملية التشطير السياسي. إلا أنّ الأداء المتتابع للمشاركين في 2006م؛ كانت تشهد العديد من الظواهر التي تُشجّع على اعتبارهم مسايرين للواقع القائم، والاحتكام بآلياته وقوانينه. غير أنّ الأخطر، والذي تنبّه له زعماء الممانعة، هو أن المشاركة، وبطبيعتها القائمة على المسايرة، أفضت إلى دائرة التغيّر وفق إكراهات النظام وشروطه، وهي نتيجة جعلت المشاركين، وبحسب الأداء والممارسة، يتحوّلون خارج فضاء المعارضة، وبمعناها السياسيّ الذي يعني عدم القبول بالنظام، ورفض الاعتراف بحدوده غير العادلة.
بهذا المعنى، كانت مشاركة المعارضة، ممثّلة في الوفاق، في انتخابات 2010 بمثابة “السباحة عكس التيار”، ليس على صعيد الآخرين الذين بدوا أكثر تصلّباً في موقفهم “الثوري” من النظام، وإنما أيضاً على صعيد المحصِّلة المتوافرة. وتعبّر الباحثة جاين كينينمونت عن ذلك بأنّ “كلا المقاربتين (أي مشاركة 2006 و2010؛ لم تساهما في تحقيق تغيير سياسي أساسي، مقارنةً بالآثار الأكثر دراماتيكية للتوريث السياسي في العام 1999 أو الانتفاضة الجماهيرية في العام 2011” (1).
كانت الأصوات التي تؤمن بالمشاركة تعتقد أن تغييراً في وجوه المشاركين هذه المرّة، من الممكن أن يُغيّر في الأداء وفي المقبوليّة الشعبيّة، إلا أن تجديد بعض الوجوه في 2010 والرهان عن جملة من الشّباب؛ لم يكسب الرهان سريعاً، ربما بسبب الابتلاع السّريع للنتيجة المتوقعة سلفاً للتجربة (وهي: صفر)، وذلك بسبب اندلاع ثورة 14 فبراير 2011م، والتي جعلت كلّ المقدّمات الحجاجيّة التي تستخدمها المعارضة في تبرير المشاركة، في مواجهةٍ مع الجمهور الذي أراد أن يخرج إلى الشوارع، ويُعبّر عن رغبته في تغيير حقيقيّ خارج قبّة البرلمان وقوانين المرحلة.
المرحلة الرابعة:
الانسحاب من المشاركة: تلبية نداء الثورة.. وصراع الضغوط (2011)
في كلمته الافتتاحية لبرلمان 2010م؛ قال حمد عيسى الخليفة بأنه نظامه سيعمل على التشديد في نظام التجنيس، والعمل على “الحدّ من تجنيس الأجانب” (2). كان من الواضح أنّ حمد أضطرّ لأن يستخدم، ولأوّل مرّة، كلمة “التجنيس” في إطار محاولةٍ اعتبرها معارضون، وقتها، بأنّها وسيلة ل”تهدئة” السّخط الشّعبي العام بسبب الاستمرار في التجنيس الممنهج، والذي أخذ ينعكس في أكثر من مجال سياسيّ واجتماعيّ وثقافيّ في البلاد، لاسيما وأنّ القوى الممانعة اتّجهت نحو تركيز مقولة “التخريب السكانيّ”، والتأكيد على وجود “مشروعٍ تدميريّ” يقوده حمد نفسه. وهي هندسة جديدة في الخطاب المعارض، أسْهم سعيد الشهابي، على نحوٍ خاص، في التأسيس لها. وقد كان كتيّب “لا تكن ظهرا لغيرك” تركيزاً آخر على فكرة “الإبادة الصّامتة” التي انطوى عليها “مشروع حمد”، وذلك بحسب الأدبيّات التي رسّخها الممانعون.
منصور الجمري، رئيس تحرير الوسط، قال في تصريح لوكالة رويترز ما يُمثّل خلاصة النظرة “المستقلة” بالنسبة لانتخابات 2010م، حيث أكّد أن “الانتخابات سوف تكرس الوضع الراهن، دون أن تؤدي إلى أي تحسن أو تدهور ملموس في الموقف”(3). وإذا كان الجمري دقيقاً في ذهابه إلى أن الانتخابات ستكرِّس الوضع، دون أن تفضي إلى تحسينه، فإن المجريات المتصاعدة على المستوى الأمني، وما كان يرشح عن تعذيب واسع يتعرّض لها معتقلو شبكة أغسطس 2010، سوف يتلاقى مع المجهود المتصاعد الذي ستبذله قوى الممانعة (وخصوصاً تيار الوفاء الإسلامي بقيادة عبد الوهاب حسين، وحركة حق بقيادة حسن مشيمع الذي كان وقتها في لندن للعلاج)، الأمر الذي سيُمهِّد لتحقّق النبوءة التي أطلقها مشيمع في مسجد الإمام الصادق بالقفول، من أنّ “ثورةً عارمة” سوف تخرج من تحت الرّماد.
الإحساس العميق الذي استولى على قيادات المعارضة التي شاركت في 2010 كان يؤكّد أن هناك “فوضى ذهنيّة” تُحيط قرار المشاركة، وأنّ المواطنين لم يعودوا قادرين على “استيعاب” المبرّرات التي تمّ التنظير لها سابقاً في مشاركة 2006م. وقد أوضح خليل المرزوق، القيادي في الوفاق، إلى وجود “صعوبة” في “إقناع” الأنصار “بالمشاركة في العملية السياسيّة” (4).
الملاحظ أنّ التأسيس الخطابيّ للمشاركة داخل “الوفاق” تحديداً، بدأ يُعاني من التراجع، وذلك نتيجة لشعور الجمهور بالصدمة من نتيجة مشاركة 2006م، وأن الجمعيّة وجدت أمامها ضغوطاً إضافيّة من داخل تيارها الذي بدأت يُعيد موازنته للأمور من خلال التأثّر بالجوّ الممانع العام الذي أخذ حجماً أوسع، حيث أضحى هذا الجو يُمارس “مزاحمة” في العدد وفي القابليّات الفكريّة والسياسيّة، وقد عبّر عبد الهادي مرهون، عضو مجلس النّواب الأسبق، عن ذلك حينما أخبر الناشط الحقوقيّ المعتقل، عبد الهادي الخواجة، بانّه حينما يذهب إلى المجالس العامة يجد “وفاقيين يتحدّثون بلسان (حقّ)”.
هذا التداخل أدّى إلى أن تُراوح “الوفاق” في مكانها، في الوقت الذي تستشعر ضرورة تغيير الموقف، ولو عبر تصعيد الخطاب، والبدء في استعارة لغة الممانعين، إلا أنّ المشاركة، وإعادة الحديث في 2010م عن “التفكير الإستراتيجي في استمرار خيار المشاركة” (5)، بحسب نائب أمين عام الوفاق الشيخ حسين الديهي، أوحى أنّ الجمعيّة لم تجد، حتّى حينه، الظرف الموضوعي و(المأساة الكبيرة) التي تُتيح لها خطوة الانتقال إلى الضّفة الأخرى، وبعيداً عن المشاركة.
بعد أشهر قليلة من انتخابات 2010م، تجمّعت الضغوط المحيطة بالمشاركين، مع الإحباطات المتراكمة جرّاء القمع الخليفيّ المتواصل، لتأتي ثورة 14 فبراير 2011م وتختم على هذه السلسلة من التردّد والإزدواجيّة وطول التحفّظ.
وقعت (المأساة الكبيرة) في دوّار اللؤلؤة، وسحبت “الوفاق” أعضاءها، ثم أعلنت استقالتهم. خُتمت المشاركة بأقلّ ما يمكن من المكاسب السياسيّة، عدا عن التوفّر على تجربةٍ من العمل السياسيّ الذي قدَّم للمشاركين الحال التي يكون عليها المعارضون حينما يلجون في صُلب النّظام وهو مجبورون على الاحتكام بدستوره غير العقدي وقوانينه غير العادلة.
المرحلة الخامسة: المقاطعة الثانية: رافعة الموقف المرجعي.. ومحكّ الثوابت المعلنة (2014)
لأن المشاركة في 2006 و2010 “لم تدفع ضرراً، ولم تجلب منفعةً”، ولأنّ ثورة البحرين استطاعت أن تتجاوز على كلّ الضغوط، وأن تؤكّد على انتسابها الشّعبي؛ فقد كان من الطبيعي أن تتجه الجمعيات المعارضة لمقاطعة الانتخابات في 2014م.
العامل الأهم في الدّفع نحو مقاطعة 2014 يتوزّع على أمرين، الأوّل يعود إلى قوّة الحضور الشّعبي الممانع، وترسُّخ المقولات التي كان يقرؤها الناسُ، فقط، في بيانات “حركة أحرار البحرين”، وفي الخطاب الممانع لتيار الوفاء وحركة “حق” وجماعات أخرى، وخصوصاً مجموعات الضغط الحقوقيّة. هذه القوّة فرضت على الجميع أخذها بعين الاعتبار، لاسيما حينما استطاعت هذه القوّة أن تخرج من ركام دوّار اللؤلؤة المُدمَّر، وتخلق لنفسها العبور الصّاعد، وغير المتوقّع، بعد دخول الدّبابات السّعوديّة وإعلان كبرى عمليات القتل والمكارثيّة الطائفيّة في البلاد. هذه القوّة التي نجحت في عدم التّماهي مع بقايا خطاب الجمعيّات السياسيّة، وهو الخطاب الذي أراد للجماهير أن تعود إلى منازلها بُعيد دخول درع الجزيرة، تحت عنوان بأنّها قدّمت ما لديها، وأُثبتت للنظام وللسّعوديين بأنهم “قتلة ولا يجيدون غير سفك الدّماء”.
الأمر الآخر في هذا العامل هو إجادة تحويل القوة الشعبيّة إلى أُطر “شبه” حزبيّة، ولكن وفق آليّة العمل السّري وغير المركزي، وقد أمَّن هذا التّحوّل وجودَ خطابٍ سياسيّ يُعبِّر عن قوة الشّارع وحضوره الثوري، وأن يرفده بالبرامج والخُطط والتنظيم العملي.
أمّا العامل الآخر، فهو “رافعة الموقف المرجعي”، والذي مثّله آية الله الشيخ عيسى قاسم، والذي حرص منذ قيامة الثورة على الوقوف مع خطوطها العريضة، وأن يكون ظهيراً لها، وبالحدود التي تجعله غير محسوب عليها، أو هي محسوبة عليه. قدّم الشيخ قاسم – بكلّ ما تُتيحه له رمزيّته (الواسعة) – الخطاب والفعلَ الذي يجعلُ عسيراً على أيّ آخر أن يفعله، وخصوصاً في المواقف التي كانت تتطلّب حسماً، أو موقفاً يمكن التعويل عليه. في موضوع الاعتداء على النساء؛ قدّم الشيخ قاسم الموقف الحاسم (اسحقوه)، وفي موضوع انتخابات 2014م؛ أعطى الموقف (الكافي) لترجيح كفة المقاطعة.
إعلان جمعيّات المعارضة عن المقاطعة ظلّ متدرّجاً، وهي عمدت إلى أن تواصل طريقتها في الإخفاء والتأجيل، وذلك لكونها ظلّت، وحتى اليوم، تحتفظ بخطوط الاتصال مع النظام، ولكن من غير أن تتلبّس به بشكل عام. أبقت الجمعيات نفسها تحت دائرة قانون “الجمعيات”، ولكنها أسقطت من خطابها مقولة
“المشروع الإصلاحي لجلالة الملك”. استمرّت هذه الجمعيّات في المناداة بالحوار، والاستجابة للدعوات له، والجلوس أكثر من مرّة مع وجوه النظام وموالاته، ولكنها ظلّت تصرُّ على “ملكية دستورية حقيقيّة” على نمط “الملكيات العريقة”. الجمعيات لم تتوقف، بمناسبةٍ أو من غير مناسبة، عن إدانة ما تسمّيه ب”العنف من كلّ الأطراف”، إلا أنّها حرصت على الاحتفاء بالمعتقلين والشهداء والاعتراف بوجود “قوى ثوريّة”، وأن تُرفع أعلامها في بعض محافلها الخطابيّة. كذلك، لم تتبنّ الجمعيات شعار “يسقط حمد” و”إسقاط النظام”، وإنّما من غير أن تُمارس ضغوطها – في حال أمكنها ذلك – لمنع المواطنين من تريده في تظاهراتهم الشعبيّة، تماماً كما لم تُحرِّك هذه الضغوط لإنزال عبارة “باقون حتى يسقط النظام” من منصّة دوار اللؤلؤة.
كلّ ذلك يُلخّص الفضاء الحامل لمقاطعة 2014م، ولكنها – في الوقت نفسه – ستظلّ قيد المراجعة، وذلك يعود إلى ذات الثنائيات المتعارضة التي تحاول الجمعيات المعارضة أن توفّق بينها، ولكن من غير أن تحسم فيها.
لأوّل مرّة، يتحدّث المعارض البارز سعيد الشهابي عن مقاطعةٍ أجمعت عليها قوى وجمعيات المعارضة، وحظيت بتأييد من كبار العلماء. هذه المرّة، لم يضطر الشهابي إلى إصدار كتيّبٍ على شاكلة “لكي لا ننتحر مرتين”، أو “لا تكن شاهد زور”، أو “لا تكن ظهرا لغيرك”. الإجماعُ الشعبي والمعارض كان كافياً، ليس للاطمئنان إلى خيار المقاطعة، ولكن لوجود “الرقابة” الشعبيّة التي ستكون حاضرة لتقيّم “الثوابت المعلنة” للمقاطعين.
[divide]
هوامش:
(1) انظر: “مقاطعة الانتخابات في البحرين”.
(2) انظر: صحيفة الوسط، كلمة حمد عيسى الخليفة في برلمان 2010م.
(3) انظر: http://www.alwasatnews.com/elections/page/440714.html
(4) انظر: http://www.alwasatnews.com/elections/page/440714.html
(5) انظر: http://www.alwasatnews.com/elections/page/456554.html