محمد الشمالي.. غلام في الخامسة عشر ربيعا عُذب وحكم بسنوات أكبر من عمره
البحرين اليوم – (حكايات الضحايا)
كان صباحا مظلما..خيم علينا عند العاشرة والنصف بطَرقٍ شديد مرعب على الأبواب، تبعه اقتحام وترويع من أعداد غفيرة من الشرطة لمنزلنا. يخال لمن يشاهد الموقف في يوم ١٢ يوليو من العام ٢٠١٢، أنه يعود لعملية إنزال عسكري للقبض على جماعة إرهابية مدججة بالسلاح.
لكن الصدمة التي لا تفارق قلب الأم المنكسر، أن أشباه الرجال الذين يدعون حفظ الأمن في البحرين، كانوا يهمون بعملهم “البطولي” لاعتقال غلام لم يبلغ الخامسة عشر من عمره. وهو مجرد من السلاح يعيش في كنف أبويه في منطقة وادعة؛ غير أنها مستهدفة ومستباحة كغيرها من مناطق البحرين التي رفع أبنائها عقيرتهم في وجه الإستبداد الخليفي. الميزة الوحيدة لمنطقة دار كليب أنها محاذية لقصر الديكتاتور حمد الخليفة، وبدل أن يكون ذلك سبب لاستتباب الأمن فيها، فقد كان على العكس مبررا لزرع الرعب والخوف بين الأهالي، حتى لا يفكر أحد فيها أن ينبس ببنت شفة.
تقول والدة محمد الشمالي حين اقتحمت القوات منزلنا قام شقيقه الأكبر وقال لهم أنا محمد (رأفة بأخيه الصغير)، لكنهم كانوا على دراية ومعرفة تامة بمن يكون محمد!
خلال بضع ثواني أصبح محمد في قبضتهم، وسحبوه عنوة أمام ناظري والدته، وهم يمسكون به كالذبيحة، ويجرونه بقسوة، وكأنهم يجرون قلبها على الشارع الذي يلتهب من شدة الحرار في ذلك الصيف. تتابع والدة محمد ركضت خلفهم دون أن أفكر بحالي، مدافعة عنه مطالبة بإعتقالي بدلا منه ولكن بلا جدوى، فقسوة قلوبهم كانت أقوى من دمعتي، كما أنهم لم يكترثوا لصغر سنه ولا لبراءة طفولته.
اختفاء قسري وتعذيب وحشي
وأصبح فؤاد أم محمد فارغا ..مضت أيام في حياتها كأنها سنوات، لا تعلم عن فلذة كبدها أي خبر، إلى أين تم اقتياده، وما هي جريمته، وما هو مصيره. وإذا كانت معاملتهم معه أمام والدته بتلك الطريقة الوحشية فكيف سيكون حاله وهو في قبضتهم معزول عن العالم الخارجي؟!
بعد مرور ١٩ يوم رن الهاتف وإذا به صوت محمد، تحدث مع والدته لدقائق معدودة ليقول لها “أنا بخير”، لكن الحقيقة هو أنه في محيط الشر وبين وحوش نزعت من قلبهم الرحمة.
تبين بعد اتصال محمد أنه كان في مركز ١٧ للتحقيق، ولم يستطع التعرف على وجوه أولئك المجرمين جراء تعصيبهم لعيون الأطفال كما أنهم ألصقو عليه تهما أكبر من عمره بكثير كالشروع بالقتل وتفجير “جيب” والاعتداء على رجل عام خلال أحداث جو.
كانت أمه متمسكة بأمل خلاصه من السجن ظناً منها أن صغر سنه سيمنعهم في نهاية المطاف عن الإستمرار في احتجازه.
خابت الظنون وصدقت المخاوف، فمحمد كان فريسة وضحية لتعذيب وحشي متواصل لانتزاع اعترافات بالإكراه على خلفية اتهاماتٍ ما أنزل الله بها من سلطان.
عيد الأم الحزين
اعتادت والدة محمد على المفاجآت التي يقوم بتحضيرها بمناسبة عيد الأم في كل عام، لكن هديتها في ٢٠١٣ كانت الأكبر، وأثرها على القلب والذاكرة أوقع من الأعياد السابقة. في ذلك اليوم ٢١ مارس كان موعد النطق بالحكم في قضية استندت فيها الأدلة على اعترافات انتزعت بالإكراه، وآثار الضرب والتعذيب على جسد محمد تشهد بما فعله الظالمون. ولكن عميت عين القاضي والمحكمة عن الحقيقة وأساس العدل “ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون”، وأصدر حكما بالسجن 21 سنة، وسلب عمر طفل بلا أي شفقة ورحمة!
كان وقع الحكم الذي نطق به القاضي كالصاعقة على قلبي، تقول والدة محمد ”انتظرت هدية عيد الأم أن تكون الإفراج عن ابني ..”. وبنبرة حُزنٍ يخفي ألما عميقا تقول الأم “ كان محمد يحب المفاجآت، ولكنه في تلك الأثناء لم يستطع أن يقبلني على رأسي، وأن يحتفل كالعادة بعيدي إلى جانبي. يداه مكبّلتان الشرطة تحيطه من كل مكان، وهو على تلك الحالة يقاد من المحكمة إلى سجن الحوض الجاف. رغم ذلك، أبى محمد إلا أن يجدد معي العهد ويغمرني بالحب، فدنى من الورود المزروعة على جانب الطريق وقطف وردتين وقال لهم أعطوا هذه الورود لأمي وقولوا لها أنني لم أنساها”.
الزيارة الخجولة
في كل مرة كنت أذهب لزيارة محمد كانت الدموع لا تفارقني، والسواد يفرض ذاته في اختيار ملابسي. ذات مرة في إحدى الزيارات، وبينما أنا على حالتي المعهوده، اعترض محمد وقال ” أمي لماذا تذرفين دموعك الغالية في كل زيارة، و ترتدين السواد، وأنا لا زلت على قيد الحياة؟ أنظري إلي.. في كل موعد زيارة أرتب هندامي وأسرح شعري لكي ألقاكما بأبهى حلة. يا عزيزتي أنا أخشى أن تراكِ أم شهيد فينكسر قلبها، وتقول إبنها لا يزال على قيد الحياة وهي ترتدي ثياب الحداد، فماذا نفعل نحن الذين فقدنا فلذات أكبادنا؟
شعرت بيني وبين نفسي بالخجل، وتحولت دموعي لابتسامة فخر بهذا النضج والإيمان الذي يكبر في قلب ولدي وعقله.
نفحات زينبية
بعد الأحداث التي عصفت بسجن جو في العام ٢٠١٥، ذهبت في موعد لزيارة محمد وبرفقتي شقيقه الأصغر ووقتها كان محمد قد نقل من سجن الحوض الجاف الى سجن جو. كانت تلك الفترة قاسية للغاية، حيث كنا نتابع ما يُنشر في وسائل التواصل الإجتماعي عن التعذيب الجماعي الذي يتعرض له السجناء، وقلوبنا تتقطع خوفا على مصير ابنائنا.
في تلك الزيارة رأيت دموع حبيبي محمد لأول مرة بعد ثلاث سنوات من اعتقاله. سألته وأنا أعتصر ألما على حاله، ماذا يبكيك يا ولدي ؟ شرح لي بعضا من أساليب التعذيب التي كان يتعرض لها صباحاً و ظهراً و مساءا. حدثني عن الغرفة الباردة التي وضع فيها، وقال لي عن السرير الحديد الذي ينام عليه دون فرش ولا غطاء. وتكلم عن المكان المليئ بالأوساخ والفضلات وكيف يتم رميه عليها وإهانته كلما احتاج للخروج من الزنزانة لقضاء الحاجة، وأساليب الضرب والتعذيب التي غيرت لون جسده.
الأمر الطبيعي هو أن أنهار وأنا أسمع معاناة فلذة كبدي ودموعه على وجنتيه، في ذلك الموقف كان عليّ أن أتجلد وأحبس دموعي لأرفع من عزيمته. وبينما أنا كذلك، وكأن نفحات من صبر سيدتي زينب (ع) هبطت على قلبي.. قلت له : بني أنت رجل شجاع و شهم ودموعك عزيزة وغالية يا حبيبي.. أرجوك لا تبكي، لا تنكسر ولا تستسلم ! تحلَّ بالصبر والثبات “واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور”.
طلب الاغاثة ولا مجيب
بعد أن أعتقل محمد لم تستطع والدته أن تجلس مكتوفة الأيدي، فراحت تبحث عن بصيص أمل عله يخفف روعة قلبها، لجأت الى “المؤسسة الوطنية لحقوق الانسان” وهي مؤسسة من تلك المؤسسات التي تدعي أن وظيفتها الاهتمام بأوضاع السجناء وضمان حقوقهم لكن جُل عملهم هو التستر على الإنتهاكات والدفاع عن الجلاديين. طالبت أم محمد بوجبة صحية لابنها كونه يعاني من الربو و نقص الخميرة، ويتوجب اطعامه وجبات صحية.
أربع سنوات مضت ومحمد لم يرى أي من تلك الوجبات بالرغم من إلزام أهله بدفع المال لقاء اطعامه طعاما صحيا.
خلال أحداث سجن جو داس أحد المجرمين على صدر محمد وهو يعلم أن لديه ضيق في التنفس، ولكن قساوة القلب لا يصدر عنها إلا توحش في التعذيب. ومن بين أساليب التعذيب والظلم حرمانه من تلقي علاجه ودراسته لسنتين.
البصيرة والثبات
رغم حداثة سنه إلا أن محمدا كان خير صديق ومعين للآخرين في داخل السجن. وكونه أقدم السجناء في مبنى القاصرين أخذ محمد على عاتقه دورا رئيسيا في تخفيف معاناة السجناء الصغار.
عندما يأتون بسجين جديد كان محمد يهيئ جو خاصا للتخفيف عنهم و يهم لمساعدتهم، يزودهم بالملابس والإحتياجات الأخرى. مع الأيام أصبح محمد يقدم محاضرات توعوية مفعمة بالصبر والصمود، كما كان يصلي بهم جماعة من شدة ثقتهم به وإلتزامه الديني.
يكرر محمد وصيته لكل سجين يعانق الحرية “لا تغرنك الحرية فتنسى مطلب الشعب، استمروا بالمسير، نحن نؤازركم بصبرنا من الداخل وأنتم من الخارج ..”.
يؤمن محمد أن أبواب الرحمة الإلهية وأبواب الفرج ستفتح له يوما، لم يقتله اليأس، بل دفعه الإيمان إلى تقسيم أوقاته من أجل استغلالها بالدراسة والعبادة ليزداد بصيرة في مقارعة الإستبداد. يتحدث محمد بثقتة تامة عن العدل الالهي، ويشعر أن دعاء والدته مفتاح للتوفيق والنجاح.
انصهر محمد في الاحتجاجات منذ الأيام الأولى لتفجر الثورة في العام ٢٠١١. وكان يحرص على التواجد في التظاهرات التي كانت تخرج للمطالبة بالحرية والكرامة.
في يوم من الأيام استوقفه والده قائلاً : “هل لاحظت تقصيراً مني تجاهك وإخوتك؟ ثم تابع حديثه أنا أعملُ ليلاً نهاراً كي أضمن راحتكم“. أجابه محمد :”وهل أنت مضطرٌ للعمل يا أبي طوال اليوم؟ أين جلساتنا العائلية؟ أليس من واجب الدولة أن تؤمن لنا حقوقنا من أجل العيش في وضع أفضل؟ قاطعته والدته في الأثناء :”بني محمد لا تزال صغيراً يا عزيزي، والمستقبل بانتظارك، ولا زلت تتابع دراستك .. ”
بكل أدب محمد ”الحق لا يعرف صغيراً ولا كبيراً يا أمي” ..
تتحدث والدة محمد عن نار مستعرة بين الضلوع شوقا لمعانقة ولدها، حيث أن جائحة كورونا حرمتهم من الزيارات المباشرة منذ ما يقارب العام. تستذكره في كل زوايا البيت، حين كان يساعدها في الأعمال المنزلية. لقد كان ولدا مميزا مفعما بالحيوية والنشاط، محبا لإخوته، يحرص على إرضاء والدته على الدوام. ويتميز بنظافته ونظامه وترتيبه وأخلاقه، ويبادر لتقديم المساعدة للآخرين.
غلام من أبناء أوال عن ألف شارب من رموز النظام الذي استباح المقدسات واعتدى على الأعراض، ودوّن اسمه في قائمة العار باستهداف النساء واعتقال الأطفال، والإرتماء في أحضان الصهاينة.