متابعات: في مسألة “نشاط حقوق الإنسان”.. هكذا مارس عبد الهادي الخواجة وعائلته النضال الحقوقي
البحرين اليوم – (خاص)
متابعات
ما وراء الخبر
كرّرت حركة أحرار البحرين موقفها الذّاهب إلى أن النضال الحقوقيّ، في البحرين خاصةً، لا ينبغي أن يكون هو مرتكز النشاط المعارض للنظام، وأشارت في بيانها اليوم الجمعة، 15 أبريل، إلى أن المعطيات والنتائج تؤكد بأن “الرهان” المطلق على هذا النوع من النضال يستند إلى “فهم خاطيء”.
تستند هذه الرؤية على فكرةٍ مفادها أنّ النشاط الحقوقي، الذي يُمارَس على الأقل ظاهرياً، أقصى ما يسعى إليه هو إجراء تحسينات في واقع حقوق الإنسان، وهو أمر لا يتحقق – عملياً – في حال استمرار الحكم الاستبدادي في البلاد، وأنّ أيّ تحسين في “شروط” الوضع الحقوقي؛ لن يُفضي إلى انتقال إيجابي في البلاد، ما دام النظام “الديكتاتوري” باق على حاله.
المؤيدون لهذا الفهم يستندون على تجربة العام 2001م، حين “عالج” الحاكم الخليفي حمد عيسى الخليفة “الوضع الحقوقي” الذي تراكم بعد انتفاضة التسعينات (انتفاضة الكرامة)، والذي أسفر عن امتلاء السجون وفصْل العديد من الموظفين والطلبة من مدارسهم وجامعاتهم. فقد تم تبييض السجون، وسُمح لكلّ المنفيين بالعودة إلى البلاد، وأُعيد المفصولون إلى مقار عملهم ودراستهم، وأُجريت سلسلة من عمليات “التحسين” في الأوضاع الحقوقيّة.
إلا أن ذلك لم يقضِ على “الاستبداد الخليفي”، بل تحوَّل – مع الوقت – إلى استبداد مقنّن ومحميٍّ بالتشريعات و”العمل البرلماني”. وتحت هذا الغطاء “التشريعي”؛ تمت إضافة/ تمرير مشاريع جديدة أكثر خطورة على حقوق الإنسان، ومنها مؤامرة التجنيس واقتلاع هوية السكان الأصليين.
هناك منْ يجادل بأنّ هذه القراءة تغفل حقيقة أنْ لا أحد يقتنع بقصْر النشاط المعارض على العمل الحقوقي، كما أنها تتجاهل أنّ الجميع – من جمعيات وقوى ونشطاء – يؤمن بضرورة أن يكون هناك تعدّداً في الأنشطة، وأهمية أن يكون العمل المعارض قائماً على إستراتيجيّة “تعدُّد الأدوار.. ووحدة الهدف”.
يبدو هذا الاعتراض صائباً، ولكن من الناحية النظرية فقط.
الإشكال الذي توجّهه بعض الأطراف بشأن خارطة العمل الحقوقي البحراني؛ لا يُقصَد به فقط خطأ “تكثير” اللجان والمنظمات الحقوقية، وإنما جوهر إشكالها يذهب إلى أن “طبيعة” العمل الحقوقي وآلياته باتت تتسرّب إلى كلّ مشهد العمل المعارض، وبحيث أصبح العمل السياسيّ والميداني والإعلامي كلّه يرتكز على لغة “حقوق الإنسان” وخطابها المدرسيّ، وبما ينطوي عليه من طابع ورديّ/ مطلبيّ من جهة، وتقني/ تراكمي من جهة أخرى.
بناءُ هذا الإشكال يستند على أن ما يجري في البحرين هو “ثورة”، وليس “نشاطا حقوقيا”، وأن العمل الحقوقي الممدوح هو ذلك الذي يأتي مساهِماً، ومساعداً، ومكمِّلا. والخطر أو “الخطأ”، هو حين يكون هذا العمل منفصلا عن أفق “الثورة”، وغريباً عن أجوائها، وعلى نحو يكون هو الأساس والجوهر، وعلى نحو يتم “شطب” العمل السياسيّ والحراك الثوري، تأسيساً وبناءاً وتطويراً.
بمعزل عن ذلك، ومع تجاوز المأخذ “الجذري” الذي تطرحه حركة أحرار البحرين بشأن أولاً: خطأ حصْرية النشاط المعارض في العمل الحقوقي، وثانياً: تسرُّب هوية العمل الحقوقي إلى مجمل العمل المعارض؛ فإنه من المفيد – كما يقول البعض – العودة إلى أبرز مثال حقوقي معروف في البحرين والخليج، وعلى نطاق أوسع أيضاً، والمتمثل في عبد الهادي الخواجة.
يحظى الخواجة، المحكوم بالسجن المؤبد، باحترام الجميع، من الحقوقيين وغيرهم، في داخل البحرين وخارجها.
ينظر إليه الحقوقيون باعتباره “النموذج” و”المعلِّم”. ولا تزال تعتبره كبرى المنظمات الحقوقيّة الدولية من أهم الحقوقيين المعتقلين في البحرين، وعبّرت عن ذلك بإطلاقها حملات تضامن عديدة معه على مستوى دول العالم.
خطّ الخواجةُ مسارا حقوقياً في البحرين، يمكن القول بأنّه الأنموذج المتكامل للعمل الحقوقي، وبالتركيبة التي تتناسب مع جوهر “النضال” في مجال حقوق الإنسان. أي أن مدرسة الخواجة في هذا المجال كانت “نضالاً”، وليس عملا تقنياً، أو نشاطاً يقتصر على إعلان المطالبة بالحقوق ورصْد الانتهاكات.
الباحث البحراني عباس المرشد استطاع أن يرصد أبرز هذه الملامح في كتابه الصادر أواخر العام الماضي والذي حمل عنواناً له دلالة واضحة، وهو: “سيرة الاحتجاج”. وأرّخ المرشد في هذا الكتاب السيرة الحقوقية للخواجة، وبشكل تاريخي معمق.
الكتاب يكشف الطريقة التي اعتمدها الخواجة في بناء حركة حقوقيّة “متماسكة”، تنجحُ في بناء وعيّ بمنظومة حقوق الإنسان، وبمرجعيتها الدولية، ولكن أيضاً تنجح في تحويلها إلى أدوات للنضال المحلي الذي يحمل صفات الاستمرارية، وعدم الارتهان للأشخاص، والاستناد على قاعدة نظريةٍ جوْهرها: “الحق قبل القانون”، وقاعدة عملية عمادها: “العمل الشعبي”.
لقد ذهب الخواجة إلى الناس، وشاركه أهله (زوجته وبناته منذ البدء وحتى اليوم) وأثار فيهم الوعي الحقوقي، وغرس فهم عقيدة أنّ “حقوقهم” الإنسانية لا حدود لها، وأنّ طرائق الوصول إليها مفتوحةٌ بانفتاح الشوارع والساحات والسواحل والفضاء، وهو ما يعني أنّ الخواجة – وبحسب مدرسته الحقوقية – لم يكن معنياً بالأمر الواقع الذي تفرضه السلطة، ولا بالاتفاقات “العرفية” التي تتفاهم بها مع الأطراف السياسيين، كما أنه كان مدفوعاً بضرورة ابتكار وسائل عملانية ليس للمطالبة بالحقوق، ولكن للاحتجاج على سلبها من الناس.
هذه “الهوية النضالية” في العمل الحقوقي؛ يمكن تلمّسها منذ تأسيس مركز البحرين لحقوق الإنسان، وطريقة الخواجة في إدارة الإشكالات الأولى التي اعترضته، منذ أن كان عبد العزيز أبل حاضراً فيه، وكيف عمل الخواجة على تحريك المركز باتجاه الملفات الحقوقية المختلفة، وتسديد مرجعيتها إلى المصادر المسؤولة عنها، وكذلك المنهج الذي أرساه – بتدرّج – في وسائل الاحتجاج، ومدّ الطّرق بين الحقوق – بما هي نظريات – والناس والشارع، والمشاركة العملانية في “العجين” الناتج عن هذه الوصلة الجامعة بين الحقوق وأهلها، وإدارة الخلافات والإشكالات التي تبرز عن ذلك، قبل حلّ المركز وبعده، بما في ذلك الإشكال الأمني، والتحريضي، والسياسيّ وغير ذلك.
في مراحله المختلفة، حافظ الخواجة على أن يكون نشاطه الحقوقي متقناً من الناحية “التقنية”، وحيوياً لجهة ترسيخ الاقتران بين النضال الشعبي، وبين النشاط الحقوقي.
أقام الخواجة وشارك في ندوات وورش عمل بالأندية وقاعات الفنادق والمساجد والحسينيات. وهو من الرعيل الأول، ربما، الذين شاركوا في اجتماعات مجلس حقوق الإنسان بجنيف، وكان له حضور مبكّر في واشنطن، وداخل معهد أمريكان انتر برايس. ولكنه جمع ذلك مع بناء منظمومة “اللجان الأهلية”، ومشاركتها في الاعتصامات كتفاً بكتف وجرحاً بجرح، وعمل من خلال ذلك تجويف لغة القمع وتعطيل مفعولها، والسعي الحثيث على كسْر التابوهات في الاحتجاج، شعاراً ومكاناً.
يعرفُ مباديء حقوق الإنسان ومواد الميثاق العالمي، وربما يحفظها عن ظهر قلب. له معارفه وأصدقاؤه من النشطاء الدوليين والمنظمات العريقة.
الانتقادات التي وُجّهت لنشاطه، ومحاولة وصْفه بأنه “مسيّس”، لم تؤثر عليه. كانت انتقادات من حقوقيين يعانون من “الغيرة”، أو متشددين بمدرسة معينة في العمل الحقوقي.
تهمة “الشعبوية” لم تؤثر فيه كذلك، وهو الذي انتهت مسيرته الحقوقية، قبل الثورة والاعتقال لاحقاً، لأنْ يكون مسؤولاً في منظمة حقوقية دولية.
تهمة “التسييس” أيضاً لم تمنعه من التشارك الذهني، والتنسيق المتين، والانخراط العملي مع حركة “حق”، وتيار “الوفاء”. نضاليته كانت الخيط الذي يجعله يلتقي بتيار الممانعة، ويكون أحد رموزه.
لم تتوقف التهم التي وُجهت إلى الخواجة، ومن أبوابٍ وأغراض شتى، ولكن الجميع اليوم يعود ليرى بأن عمله “النضالي” في مجال حقوق الإنسان؛ هو نموذج العمل الذي يُناسب الحالة البحرانية الراهنة.
لا يعني ذلك أنه لا يجوز الاجتهاد في مقابل هذه المدرسة. ومن المؤكد أنّ العمل الحقوقي، وبطابعه التقني حتّى، هو مطلوب، وله طابعه الحسن، ولا أحد يُنكِر ذلك. ويكفي أن هذا النّوع من النشاط المدروس أوْصل صوت “الشهداء” وعوائلهم إلى جنيف، وفي خطوةٍ تُشبه – في المفعول والدلالة – ما كان يفعله الخواجة حين يذهب إلى الناس، أو يأخذ الناس معه.
ولكن النقاش الذي يُفضل البعض تحريكه هو الاقتراب من هوية “النضال الحقوقي” للخواجة، والبحث في مدى حضورها لدى الحقوقيين اليوم؟ وإلى أيّ مدى يمكن أن تكون معالجة هذه المدرسة مفتاحاً ومفيداً للبحث والتدارس في أصل النقاش الدائر اليوم حول “النشاط الحقوقي” في البحرين، وإشكالات التكثُّر، والتعدُّد، والاستغراق؟