ما الذي يجمع أعرق ديمقراطية بأعتى دكتاتورية في العالم؟
البحرين اليوم – (خاص)
بقلم: ساهر عريبي
إعلامي عربي
أثارت الدعوة التي وجّهتها رئيسة حكومة المحافظين البريطانية تيريزا مي لولي العهد السعودي محمد بن سلمان لزيارة المملكة المتحدة في الأسبوع المقبل (أثارت) موجة من السخط في أوساط المنظمات غير الحكومية في بريطانيا، وخاصة جماعات حقوق الإنسان والمجموعات المناهضة لتجارة الأسلحة وللحروب. وقد اعتبرت تلك الجماعات ولي العهد السعودي شخصا غير مرغوب فيه، داعية رئيسة الوزراء إلى إلغاء زيارته وعدم فرش السجادة الحمراء لمن وصفته بـ“مهندس“ الحرب العدوانية المتواصلة على اليمن، والتي توشك بعد ثلاثة أسابيع أن تدخل عامها الرابع على التوالي.
لكن تيريزا مي لم تعط هذه النداءات آذانا صاغية، بل أصرت على إجراء الزيارة. فما الذي يجمع دولة كالمملكة المتحدة تمثل أعرق ديمقراطية في العالم بمملكة توصف اليوم بأنها أعتى دكتاتورية في هذا القرن؟ ففي الوقت الذي تضمن فيه الديمقراطية البريطانية جميع الحقوق الإنسانية التي نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية والإقتصادية؛ فإن السعودية خنقت أبرز الحقوق الإنسانية، وفي مقدمتها حق الإنسان في حرية الرأي والتعبير وحقه في انتخاب حكومته، والحق في التظاهر والتجمع وتأسيس الجمعيات.
وفي الوقت الذي تتمتع به بريطانيا بنظام حكم برلماني يعتبر فيه الشعب مصدرا للسلطات جميعا، وليس فيه للعائلة المالكة سوى دور تشريفي ورمزي؛ فإن الحكم في السعودية لاتزال تهيمن عليه منذ عقود؛ عائلة آل سعود التي تستحوذ على كافة موارد البلاد الإقتصادية وتحكم قبضتها على كافة السلطات، ولا تسمح للمواطن الا بتقديم فروض الطاعة والولاء للعائلة، وبغير ذلك فإن السيف بانتظاره ليتدحرج رأسه على الأرض ويُخفى جثمانه، بتهمة الخروج على طاعة أولي الأمر!
إلا أنه وبالرغم من هذا التباين الجوهري في طبيعة النظامين الذي يصل إلى حالة التضاد؛ فإن السعودية تعتبر اليوم حليفا إستراتيجيا للمملكة المتحدة! والى الحد الذي تكاد فيه أن تسقط مقولة المناطقة القائلة أن النقيضين لا يجتمعان! فما الذي يجمع فعلا هذه البلدين المتناقضين؟ وللإجابة على هذا السؤال لابد من العودة إلى تاريخ تأسيس المملكة العربية السعودية الثالثة على يد الملك عبدالعزيز آل سعود، فهذه المملكة ما كان لها أن ترى النور لولا الدعم البريطاني لابن سعود الذي وقف إلى جانب الإنكليز في إسقاط الدولة العثمانية، فكان ثمن تمرده على دولة ”الخلافة الإسلاميه“ هو تأسيس المملكة التي أصبحت منذ ذلك الحين حليفا إستراتيجيا للمملكة المتحدة.
ولعل هذا التاريخ هو الذي أشار له وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون في معرض تبريره لزيارة ابن سلمان عندما استشهد بشرب رئيس الوزراء الأسبق وينستون تشرشل لقدح من الماء من بئر زمزم قدّمه له الملك عبدالعزيز خلال اجتماعهما في صحراء الفيوم المصرية أواسط القرن الماضي، إذ شدّد جونسون على أنه سيستمر بشرب “الكأس” السعودية في زمن حفيد عبدالعزيز وحتى الثمالة.
إن هذا التحالف كان يمكن غض الطرف عنه عندما كان طابع الحروب والإستعمار يغلب على بريطانيا العظمى التي احتلت أرجاء كبيرة من المعمورة خلال القرون الماضية، لكنه لم يعد مقبولا في عالم اليوم، بل أصبح أمرا نشازا بعد أن باتت بريطانيا توصف بالعظمى اليوم، لا لقوتها العسكرية التي تراجعت كثيرا أمام قوى دولية متعددة، ولكن لعظمة نظامها الديمقراطي الذي يحترم كرامة الإنسان بغض النظر عن عرقه ولونه ودينه. هذه الحقيقة هي ما تفسر حالة الحرج الشديد التي تقع فيها الحكومة البريطانية سواء داخل البرلمان أو في الشارع نتيجة تحالفها الوثيق مع النظام السعودي، ودعمها للحرب العدوانية على اليمن، التي تسببت بكوارث إنسانية في ذلك البلد، ولغضها الطرف عن سحقه لحقوق الإنسان الأساسية.
ولا تبدو المبرّرات التي تسوقها رئيسة الوزراء لتوجيه هذا التحالف مقبولة أو منطقية، وفي مقدمتها مبرر التعاون الأمني الذي مانفكت تيريزا مي تؤكد على أهميته مدعية أن التعاون الأمني مع السعودية أسهم في إنقاذ أرواح مواطنين بريطانيين, وهو امر مؤكد, لأن السعودية وببساطه تعتبر أكبر ممول للجماعات الإرهابية في العالم بحسب العديد من التقارير المختصة ومنها تقرير للحكومة البريطانية ذاتها يحمل السعودية المسؤولية, ولذا فإن تزويدها بريطانيا ببعض المعلومات حول الإرهابيين يضع السعودية في دائرة الإتهام وليس دائرة التعاون والتحالف.
لكن مبرّرا وحيدا ساقته مي يبدو منطقيا, ألا وهو المصالح الاقتصادية للمملكة المتحدة، فالسعودية أصبحت اليوم بقرة حلوبا يسعى كل قوي في العالم إلى حلب ضرعها، ولو عبر صفقات الأسلحة التي تذبح بها الأبرياء وتزود بها الجماعات الإرهابية في العالم. فهذه الصفقات تحرك الإقتصاد البريطاني الذي أصبح في مهب الريح منذ استفتاء الخروج من الإتحاد الأوروبي الذي يهدد بحرمان بريطانيا من أكبر تجمع اقتصادي في العالم يبلغ تعداد نفوسه النصف مليار شخص.
غير أن ثمن تلك المصالح باهظ أخلاقيا، لأنه يعني تخلي بريطانيا عن دعم المباديء الديمقراطية وتعزيز حقوق الإنسان في العالم، وهو ما يؤدي إلى الطعن في مصداقية دعواتها لإحلال الديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان في أنحاء أخرى من العالم. فلا يعقل أن منْ يتحالف مع أعتى دكتاتورية يصدق في الدفاع عن تلك المباديء الإنسانية! إن هذه الحقيقة بات الشارع البريطاني مدركا لها، وهو ما يفسر ارتفاع شعبية حزب العمال المعارض المتوقع أن يكتسح أي انتخابات مبكرة، ليعيد لبريطانيا دورها الرائد في الدفاع عن الحقوق الإنسانية الذي كانت تتمتع به في التسعينات من القرن الماضي.