ماهر الخباز المحكوم بالإعدام: انشروا ظلامتنا.. ففيه فرج لنا
البحرين اليوم – (حكايات الضحايا)
من بين عوائل كثيرة تتبنى مبدأ الصمود أمام جبروت الطاغوت؛ ظهر ماهر الخباز (مواليد ١٩٨٥) المحكوم بالإعدام ظلما، ليكون شاهدا على أن الطاغوت مهما علا ومارسَ الظلم؛ فإنه سيبقى صغيرا وذليلا أمام صمود الضحايا وكبريائهم الذي لا تفلُّه معاول التعذيب ولا القتل بدم بارد.
لا تفاصيل مختلفة في حكاية ماهر عن باقي حكايا الضحايا التي تتفق جمعيها على الاستهداف، والانتقام العشوائي، والأخذ بالتهمة والإجبار على توقيع الاعترافات، ومن ثم إصدار الأحكام الظالمة. المختلف في حكاية ماهر هو استهداف جميع أفراد عائلته، واختصاصه بينهم بحكم إعدام ظالم صدر بحقه.
ولد ماهر في ١٩٨٥م لعائلة فقيرة وصغيرة تتألف من من سبعة أشخاص. اضطر ماهر – حاله كحال أخوته – لترك مقاعد الدراسة وهو في الصف السادس الابتدائي ليعمل في سوق جدحفص، سعيا لاكتساب قوت يوميه الذي صادرته منه العائلة الحاكمة إرضاءا لشهوات أبنائها المدللين وألعابهم الغريبة. نعم، في بلد مثل البحرين؛ تُصادَر خيرات البلاد لتُصرف على شهوات أبناء الحاكم، وليس مهما أن يضطر يافع مثل ماهر الخباز وأخوته لترك مقاعد الدراسة، والبحث عن عمل متواضع، مثل تحميل الأغراض في الأسواق. تنقّل ماهر بعدها في عدد من الأعمال (وبينها سائق في متجر للمفروشات)، إلى أن استقر به الحال أن يعمل سائقَ توصيل في إحدى الفنادق ذات الخمس نجوم (غولدن تولب)، ليرى بأم عينيه كيف أن مجتمع البحرين البسيط والمتجانس؛ قد تحوّل لمجتمع طبقي، تحكمه فئة صغيرة فاحشة الثراء، وعلى حساب الفئة الأكبر من الفقراء. صحيح أن ماهر لا يُتقن فنون القراءة والكتابة، لكنه يدرك بعين الضحية مقدارَ معاناة أهله ومجتمعه.
العائلة المستهدفة
قبل أن يرى ماهر الخباز الحياة؛ كان أخوال أخوته من زوجة والدهم الثانية ضحية من ضحايا إرهاب قانون أمن الدولة في ثمانينات القرن المنصرم، لذلك كانت قصص التعذيب والاعتقال غير غريبة عليه، وقد سمعها بشكل دائم ومتواصل. لكن ماهر وأخوته يسمعون قصص أخوالهم بكلمات أخرى، غير كلمات الرثاء والأسى، فقد كانوا يتلقون تلك القصص ممزوجة بعبارات الصمود والكبرياء، وهو السلاح الذي سيظل يناضل به في وجه دبابات وبنادق “السلامة الوطنية”.
فور إعلان أحكام الطوارئ واقتحام قوات الجيش الخليفي ودرع الجزيرة للبلاد، في أكبر عملية تطهير طائفي وسياسي تشهدها البحرين؛ كان ماهر الخباز وأخوته من أوائل المطاردين والملاحقين في قضية اختطاف الشرطي “صالح مشعان مشلح”، سوري الجنسية، والتي اتُّهم فيها عشرة أشخاص، وحكمت عليهم محكمة عسكرية بالسجن ٢٠ عاما. فبعد اعتقال أبناء عائلة المدهون؛ جاء شخص لعائلة ماهر الخباز وأبلغهم لهم رسالة من شخصية شعبية قيادية يطلب منهم مغادرة المنزل. وبالفعل غادرت العائلة المنزل تماما لحين انتهاء الحكم في القضية في ٢٠ يونيو ٢٠١١. بعد استشهاد الشهيد علي صقر؛ عاد الأخوة إلى منزل أبيهم، وبعد عدة أشهر أُلقي القبض عليهم عند نقطة تفتيش، وأُخذوا للتحقيق على خلفية قضية الشرطي مشعان. ونظرا لانتهاء القضية؛ فقد تم الإفراج عنهم في اليوم نفسه.
القضية الملفقة
عشية إحياء ذكرى ١٤ فبراير من عام ٢٠١٣م؛ أعلنت وزارة الداخلية عن مقتل أحد منتسبيها (باكستاني الجنسية) في منطقة السهلة، ويُدعى محمد عاصف. وقالت في بيانها أنه مات نتيجة تفجُّر قذيفة في منطقة الحوض. في المقابل؛ كانت بيانات وزارة الداخلية تلتزم الصمت والإنكار في شأن استشهاد الشهيد حسين الجزيري، الذي قُتل على أيدي المرتزقة أيضا في منطقة الديه.
في الساعة الثامنة والنصف من مساء ١٨ فبراير ٢٠١٣؛ طوقت أعداد كبيرة من رجال الشغب والشرطة منزل عائلة الخباز بحثا عن شقيقه أحمد، فاشتبك معهم أخوه فاضل، ولم لم يجدوا أحدا في البيت، فهموا بالخروج وهم يلوحون بنية أخرى، حيث قال المسؤول عن المرتزقة: “إننا لن نترك البيت إلا باعتقال جميع أفراده”. وبالفعل عادوا صباحا، واعتقلوا جميع من في البيت. أما ماهر فقد كان على رأس عمله في المطار، ينقل بعض المسافرين، وقد جاءه اتصال من مقر عمله في الفندق، يطلب منه المجيء مقر العمل، وعندما وصل وجد نفسه محاطا بمجموعة من رجال المخابرات بلباس مدني، وتم اعتقاله ونُقل إلى مركز شرطة (مدينة حمد) الدوار ١٧. كانت التهمة جاهزة ضد ماهر عندما وصل مقرَّ التعذيب، حيث وُجّهت ضده تهمة القتل العمد للشرطي الباكستاني محمد عاصف، وبالتعاون مع أخوه فاضل الذي زعموا أنه أخذ القاذف من مقر عمله بإحدى السفن، وأعطاه إياه.
التعذيب ونزع الاعتراف
طوال أسبوع كامل تعرَّض ماهر لشتي أنواع التعذيب التي وثّقها تقرير (بسيوني)، حيث مُنع من الاتصال بعائلته، وتم ضربه بقطع من الحديد والخشب، كما لم يسلم ماهر من التحرش والاعتداء الجنسي من أجل إجباره على الاعتراف بتفاصيل لا يعرفها، ويجهل كيف يمكنها أن تحدث. لكنها آلة التعذيب وعقلية الاستخبارات التي تصر على موقفها وروايتها. وقد شارفَ ماهر على الموت نتيجة التعذيب، فنُقل إلى المستشفى العسكري للعلاج. بقي أسبوعا كاملا في المستشفى، وبعدها جاء إليه مجموعة من الأشخاص، وأخذوا توقيعه على حزمة أوراق وقّعها لأنه لم يكن يجيد القراءة والكتابة. وقبل أن يستكمل علاجه؛ أُخذ ماهر إلى النيابة العامة ليوقّع أيضا على الاعترافات المنسوبة إليه. وعندما شكى ماهر للنيابة ما تعرض له من تعذيب؛ هدّده ضابط التحقيق بإرجاعه إلى المكان الذي عُذّب فيه ما لم يوقع الأوراق نفسها.
القاضي الصلف
أن تذهب إلى محكمة سياسية؛ فهذا يعني أن تواجه خصما جديا، لا يختلف عن الجلاد سوى في اللباس وطريقة التعذيب الناعمة التي يمارسها على ضحاياها. فالقاضي المعروف علي الظهراني، الذي يُمسك برئاسة المحكمة الجنائية الرابعة؛ لا يفقه من القانون أو التقاضي شيئا سوى أن يقرأ ما يُكتب له في ورقة جانبية وتتضمن الأحكام التي ينبغي أن ينطق بها. فبعد عدة جلسات شكلية؛ لم يعترف الظهراني بوقوع أي تعذيب على المتهمين الماثلين أمامه، ولم يسمع لشكواهم أساسا، لكنه في ١٩ فبراير أصدر حكما بالإعدام على ماهر الخباز بتهمة قتل الشرطي محمد عاصف. إنّ إفادات التعذيب، وإنكار الاعترافات المنزوعة قهرا تحت وطأة الموت؛ لا تعني شيئا لعلي الظهراني! فجلُّ ما يفقه هذا الصبي المسنود على كرسي القضاء؛ هو قراءة الورقة الصفراء التي تأتيه مفصّلة بالأحكام التي سيتلوها.
حكايا السجن
صدور حكم الإعدام يعني أن تُحال إلى عنبر خاص، لا ترى فيه سوى المحكومين بالإعدام أيضا. ولذلك يقضي ماهر الخباز أيامه في هذا العنبر المعزول عن الرؤية وعن العالم.
يقول ماهر عن سجنه أنه عالم مملؤ بالتعذيب والانتهاكات، ولكنه أوضح أن ما يُخفف عنهم قليلا من التعذيب والتضييق؛ هو نشر ما يتعرضون له من ممارسات لا إنسانية.
بعد قصة الهروب الكبير للمناضل الشهيد رضا الغسرة؛ تم التضييق على جميع السجناء في سجن جو، ومن بينه ماهر واخوته، حيث تم تفريق زياراتهم العائلية، فخُصّص لكل واحد منهم يوم في الزيارة، الأمر الذي شكل إرهاقا للعائلة التي كان يتوجب عليها أن تحضر يوميا لزيارة شخص واحد، ثم تعاود الزيارة في اليوم الثاني للفرد الآخر.
نتيجة ذلك، قرر الأخوة الأربعة مقاطعة الزيارات، وأضربوا عن الخروج. وقد شارف هذا الاضراب على إكمال السنة، في الوقت الذي تتعنت سلطات السجن وتمتنع عن الاستجابة لمطلبهم الإنساني والبسيط.
يتحدث ماهر عن معاناة أخيرة تعرّض لها.. وهي قصة ضابط يُدعى (وليد الرفاعي)، وهو الأكثر طائفية وعنصرية، ويحمل الحقد تجاه ماهر أكثر من غيره، وفي كل مرة يصادف ماهر يقوم وليد بإهانته والاستهزاء به والبصق عليه، وكان ماهر يضبط أعصابه في كل مرة، وإلى أن انفجر ذات مرة، وقام بالتصدي لوليد الرفاعي، وضرَبه وجعله ذليلا، ثم تركه وتوجه لقضاء حاجته في الحمام، ثم عاد الرفاعي ومعه جوقة من الجلادين، وقاموا بالعبث في أغراض ماهر وتخريبها، وانتظروه إلى أن يعود من الحمام، فانهالوا عليه بالضرب والركل بالأرجل، ثم قيدوه في اليدين، وبالسلاسل في الرجلين، ونُقل إلى السجن الانفرادي لمدة عشرين يوما.
الصمود والصبر
رغم كل العذاب والظلم الذي لحق بماهر وأخوته؛ إلا أنه لا يزال صلبا وقويا ومقاوما من الطراز الأول. فحديثه يشعُّ بالتفاؤل والأمل وحتمية الانتصار القادم، وهي حالة استمدها من والده الذي يرفض رفضا قاطعا أن يتقدّم بالتماس “طلب عفو” من حمد عيسى، أو أي شخص آخر، ويقول لمن يرغّبه في ذلك: “ليقطعوا رأسي أيضا.. ولكن لن أنحني لا للملك أو لأي أحد آخر”.