مأزق بوتين!
البحرين اليوم – مقالات ..
بقلم: ساهر عريبي – كاتب وإعلامي
يحبس العالم أنفاسه منذ شهر نوفمبر من العام الماضي, بعد أن أمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتحريك قوات عسكرية نحو الحدود مع أوكرانيا, وسط تقديرات بأن تلك الحشود بلغ تعدادها أكثر من 100 ألف عسكري روسي.
تعتقد دول غربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة وبريطانيا, بأن بوتين يعتزم احتلال أوكرانيا ما أثار حالة من الترقب و المخاوف من اندلاع حرب عالمية ثالثة بين روسيا والغرب بعد أن ألقى حلف شمال الأطلسي( الناتو) بثقله خلف كييف محذرا روسيا من عواقب وخيمة تترتب على غزوها لأوكرانيا.
ارتفعت حمى التحذيرات الغربية من قرب وقوع الغزو الروسي وإلى الحد الذي طلبت فيه دول عدة من رعاياها مغادرة أوكرانيا على وجه السرعة, بل بلغ الأمر إلى حد تحديد ساعة الصفر لبدء الغزو وهي الثلاثاء 15 فبراير! وفي هذا الخضم حلقت أسعار النفط والغاز عاليا لتبلغ مستويات لم تشهد مثيلا لها منذ سبع سنوات, وارتفع سعر المعدن الأصفر الذي يعد ملاذا آمنا عند الحروب, ارتفع إلى مستويات قياسية لم يشهدها منذ نحو ثمانية شهور.
يأتي هذا التصعيد رغم إعلان موسكو بأن مقولة الغزو عبارة عن ” بروبغندا” يروج لها الغرب, ورغم إعلان الرئيس الأوكراني أن من لديه الأدلة على نية موسكو غزو كيييف أن يقدمها. إلا أن واقع الحال على الأرض في أوكرانيا يشير إلى أنها بصدد الاستعداد لصد غزو روسي محتمل. وفي الأثناء تتوالى المساعدات العسكرية الغربية لأوكرانيا الدولة الطامحة لعضوية الناتو, فهل هناك نية روسية فعلا لغزو أوكرانيا أم أن ما يحصل هو تهويل بهدف تحقيق منافع اقتصادية وجيوسياسية؟
ولأجل الإجابة على ذلك لابد من العودة إلى الوراء قليلا وتحديدا إلى العام 2014 عندما ضمت روسيا جزيرة القرم التي كانت تتمتع بحكم ذاتي في أوكرانيا, جرى ضمها بالقوة رغم رفض المجتمع الدولي لذلك ووصفه بغير القانوني. كما أن روسيا دعمت الانفصاليين الروس في إقليم الدونباس الأوكراني, الذي تسكنه أغلبية من أصول روسية تدعي تهميش كييف لها. وقد اندلعت اشتباكات مع القوات الأوكرانية سعت اتفاقية مينسك لضبط إيقاعها, إلا أن الأمور خرجت عن سيطرة كييف في تلك المناطق التي باتت عمليا خاضعة لسلطة موسكو وحمايتها.
وعند العودة إلى الوراء أكثر وتحديدا إلى العام 2008 فإن روسيا شنت حينها هجوما على جورجيا انتهى باستقطاع منطقتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية وإعلانها جمهوريتين مستقلتين لم يعترف بهما المجتمع الدولي. يعتقد أن الدافع وراء ذلك الهجوم الروسي هو عزم جورجيا الانضمام لحلف شمال الأطلسي, وهو الأمر الذي لم يقع لحد اليوم رغم الشراكة القوية بين الطرفين.
لكل ذلك يبدو أن هاجس تمدد حلف شمال الأطلسي ليشمل كل البحر الأسود يؤرق بال موسكو. فهذا البحر هو المنفذ الاقتصادي والعسكري الوحيد الذي تسرح فيه القوات البحرية الروسية, لذلك لا تريد روسيا وقوع معظم البحر الأسود تحت رحمة حلف الناتو.
فهذا البحر لم تبق دول مطلة عليه لم تنضم للناتو سوى اثنتان هما جورجيا وأوكرانيا. فمن الجنوب تطل عليه تركيا ومن الغرب مولدافيا وبلغاريا ورومانيا وجميعها أعضاء في الناتو. لذلك فإن الادعاء الغربي بأن روسيا بصدد غزو أوكرانيا لا يخلو من الواقعية نظرا لتاريخ روسيا على هذا الصعيد مؤخرا, ونظرا لأن الانضمام إلى الناتو هو الهاجس.
إلا أن ما يقلل من احتمال الغزو هو أن أوكرانيا دولة مستقلة عضو في الأمم المتحدة, وأن أي غزو لها سيعني عزلة دبلوماسية لروسيا ومقاطعة اقتصادية غير مسبوقة لعل أبرزها حرمان روسيا من الوصول إلى نظام التحويلات المالية العالمي “سويفت” فضلا عن مقاطعة صادرات النفط والغاز الروسية. إلا أن موسكو تعي أن بإمكانها معالجة تداعيات الغزو السياسية, وكذلك التداعيات الاقتصادية. فالعقوبات سلاح ذو حدين لن يتضرر منه الروس فحسب وإنما القارة العجوز.
فالغاز الروسي يستحوذ على نحو 40% من حاجة القارة العجوز على هذا الصعيد فضلا عن الصادرات النفطية الروسية. وعند التمعن في هذا الارتفاع الكبير في أسعار الطاقة في أوروبا لمجرد الحديث عن غزو محتمل, يمكن تصور حجم الكارثة التي ستلحق بالاقتصاد الأوروبي الخارج لتوه من تداعيات جائحة كورونا, من انقطاع إمدادات الغاز الروسي. وفي مقابل ذلك وفي محاولة لطمانة شركائها الأوروبيين زادت الولايات المتحدة من حجم صادرات الغاز إلى أوروبا وسط دعوات للدول المنتجة للغاز مثل قطر إلى تعويض أي نقص محتمل في إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا. إلا أن جميع هذه الخطوات لم تهدئ من روع الدول الأوروبية التي باتت وسط صراع لا ترغب في الدخول فيه.إلا أنه يمكن القول أنه فرض عليها من واشنطن التي تتزعم حلف الناتو.
إلا أن ما يثير الاستغراب بشأن التصعيد ضد موسكو, هو أن الإدارة الأميركية الجديدة لم تضع نصب عينيها مواجهة الدب الروسي بل التنين الصيني الذي يزيد من ترسانته العسكرية وخاصة النووية منها, كما أن نموه الاقتصادي بات مقلقا لواشنطن وخاصة على المدى المتوسط, إذ قد تفقد ريادتها الاقتصادية لصالح بكين خلال العقود القليلة المقبلة.
إلا أنه مع الأخذ بنظر الاعتبار التحالف الصيني الروسي فإن أي تحجيم لروسيا يعني توجيه ضربة إستراتيجية للصين أو احراجها أمام موسكو. كما أن أي تحجيم أو إفشال للمخطط الروسي بشأن أوكرانيا سيكون له انعكاسات على التمدد الروسي في منطقة الشرق الأوسط وخاصة في سوريا وليبيا والسودان وعلى التنسيق الروسي الإيراني بشأن العديد من الملفات.
ولمواجهة كل هذه التداعيات فيمكن القول بأن الرئيس بوتين أراد استخدام الورقة العسكرية لإحباط تمدد الناتو نحو حدود بلاده وإن كان ذلك يتطلب غزو أوكرانيا, إلا أن ردود الفعل الغربية التي تمثلت بدعم أوكرانيا وزيادة تواجد الناتو العسكري في البحر الأسود وفي الدول المطلة عليه, دفعت بوتين إلى إعادة النظر في حساباته, فهو يقف اليوم أمام خيارين أحلاهما مر. الأول هو غزو أوكرانيا الذي ستكون له تداعيات لا تعرف مداها على روسيا وقد يكون جرها نحو حرب مع حلف الناتو تميل فيها موازين القوى لصالح الأخير.
أو أن يضطر لسحب قواته من الحدود مع أوكرانيا والتي بدأت بوادرها الثلاثاء بالتزامن مع زيارة المستشار الألماني إلى موسكو. إلا أن سحب قواته دون الحصول على ضمانات أمنية يعني هزيمة لموسكو وانتصارا للغرب الذي ما انفك يطالبها بذلك كشرط لخفض التصعيد. ولذا فإن موسكو لا خيار لها اليوم سوى انسحاب مع حفظ ماء وجهها وقد يكون ذلك متزامنا مع سحب الناتو لقواته التي أرسلها مؤخرا إلى بحر قزوين, ولكن دون تقديم ضمانات لموسكو بعدم ضم أوكرانيا إلى الحلف.
فالولايات المتحدة زعيمة حلف شمال الأطلسي تسعى لتسجيل نقاط ضد موسكو وبكين ويبدو أن الرئيس الروسي قدم لها فرصة لتحقيق ذلك على طبق من فضة وليس من الحكمة أن تضيع واشنطن هذه الفرصة!