في ذكرى الشهيد حسن جاسم: حكاية الشهادة في خمسة أيام
البحرين اليوم – (خاص)
بقلم: أبو حسن الكرزكاني
ناشط من البحرين
ستّ سنوات مرّت، وكأنها وميض خاطف مرّ أمام العين. ستّ سنوات بأيامها ولياليها؛ ولكنها تشبه الأمس بالنسبة إلى زوجته وأبنائه الثلاثة ومحبّيه. هم يتذكرون ما حدث، وتحضر في ذاكرتهم الحيّة أهم وتفاصيلَ الحدث، بكلّ دقته، وكأنه مرّ قبل لحظات.
حلكة الظلام تزداد سواداً. عقرب الساعة تخطّى الساعة منتصف الليل. الهدوء يخيّم على قرية كرزكان، وكلٌّ في سبات عميق. لحظات، ويتبدّد الهدوء. الأصوات تعلو في المكان. تكسير الأبواب يقرع القلوب. ذئاب النظام الضالة تحوم في الأرجاء، وتقترب من بيت والد الشهيد حسن جاسم. تقتحم شقته دون استئذان، وبكلّ وحشية تقتاد الشهيد أمام مرأى زوجته ودموع أطفاله. العيون الملأى بالذهول لا تجد جواباً أو تبريرا لما يحدث حولها.
بعد أن مرت ساعات الليل الطويلة من يوم ٢٧ مارس ٢٠١١م؛ توجّه الأب المثكول مع ابنه الكبير للبحث عن ابنهما في مراكز الشرطة. كانوا يأملون أن يجدوا حسّاً أو يسمعوا خبراً عن قضية الشهيد. كان معروفاً بهدوئه، ولم يكن ثمة سبب يدعو لاعتقاله. يومان من البحث. يومان من الوجع المضني، حتى حصلوا على خبر زادَ همّهم هما. حسن معتقل في سجن جو، والتهمة: “هويته الشيعية”، وحقد النظام الساقط ودمويته الذي يحكمه أسفه الناس وأكثرهم انحطاطا.
بعد خمسة أيام من اعتقاله؛ أعلنت وزارة الداخلية عن “وفاة نزيل في سجن جو”. الخبر أدخل الفجيعة على أهله قبل ميعادها. نبض الوالد لم يستقر. توجّساً وخوفاً، وكأن ضيق الصدر يخبره أن كارثة على وشك الوقوع. لم يكن ليخطيء حدس الوالد. ينزل عليهم اتصالٌ من وزارة الداخلية يدعوهم لاستلام جثة الابن من مستشفى السلمانية. المستشفى تحوّلت إلى ثكنة عسكرية تحيط بها عساكر النظام. الآليات العسكرية في كلّ مكان. كلّ منّ يعبر بينهم لابد أن يخضع لتفتيش دقيق، ومهين.
توجّه الأب إلى هناك مع أبنائه علّهم يحظون بنظرة الوداع للحبيب الراحل. ولكن المنع كان جواب القوم، وسُمح للوالد فقط برؤية وجه ابنه، وتوقيع أوراق تفيد بأن وفاته “طبيعية” لاستلام جثته. ولكن المأساة انكشفت حين كان الشهيد حسن مسجى على المغتسل. كدماتٌ وآثار اعتداء بآلة حادة، وطعنات، وتكتّل للدم. كان الشهيد فريسة لذئاب اعتادت على نهش الأجساد. كلّ الذين مدّوا أبصارهم إلى جسده؛ كانت تخنقهم العَبرات لهول “الحكاية الفجيعة” التي يرويها جسده المعذَّب. بدأت الأعين تتخيّل يوميّات التعذيب التي نزعت روحه، وكيف كانت ساعاته الأخيرة!
كان صادما حين أخبر أحدُ أطباء (منظمة أطباء بلا حدود) أن حسن عُلِّق لساعاتٍ طويلة، وتعرّض رأسه للضرب بآلة حادة. وبعد يومين من دفن الشهيد؛ تلقى الأخ الأكبر اتصالا من أحد المعتقلين ممّن كان مع الشهيد، وأخبره كم هي مؤلمة ليالي الأنين التي كان يُطلقها حسن! وكيف تلذّذ الجلاد بتعذيبه، وسكْب الماء البارد المثلّج على جسمه المنهك. وقد زادوه عذاباً حين علموا أنه مريض بالسكلر. أخبره المتّصل أن الشهيد حسن ظلّ واقفا، وتفنّنوا بتعذيبه حتى انتزعوا روحه. كان الألم يعتصر قلب شقيق الشهيد وهو يسمع فاجعة أخيه. ولكن السّلوى على محبّيه؛ أنّ الشهيد سار على نهج الإمام موسى الكاظم حين استشهد في غياهب السجون. ما يُسلّي أهله هو أن الله اختاره للشهادة ليكون شاهدا على ظلم ووحشية النظام، من رؤوسه وجلاديه. ولتستمر التضحية، ويستمر النضال حتى يتنفس شعب البحرين شذى الحرية وأريجها.