مقالاتنادر المتروك

في اليوم العالمي لحرية الصحافة: توليفة إعلام الناس والمعارضة والثورة

نادر المتروك - كاتب صحفي - بيروت
نادر المتروك – كاتب صحفي – بيروت

كيف يمكن للصّحافي أن يكون حرّاً؟

تبدو الثنائية هنا مفتعلة، أو قريبة إلى البروغندا. الكاتبُ الصّحافي يخسرُ جزءاً من حرّيته حين يُصبح منتمياً، أو عاملاً للمؤسّسة. المؤسّسة هنا يمكن أن تكون كياناً صحافيّاً، أو ولاءاً فكريّاً، أو موقفاً روحيّاً تجاه قضيّة أو مجموعة أو شعب ما.

في البحرين، خضعَ الكاتب في الصّحافة لأكثر من اختبار لإثبات مدى، ومستوى، ومنتهى حرّيته المفترضة. ومن المتاح أن نقرأ سيرة البلاد من خلال كتّابها، أو أقلامها التي تبرز، سقوطاً أو هبوطاً، وتظهر للنّاس بالشتيمة أو بالدّفاع أو بين بين.

خلال ثورة ١٤ فبراير كان هناك أكثر من تموضع للكتّاب والصّحافيين والممارسين للعمل الإعلامي. ويمكن أن يكون المشهد في خانة السّلطة واضحاً، حيث اختارَ الكثيرون أن يكون صوتاً لهذه السّلطة، وسوْطاً لها. قليلٌ منْ حافظَ على توازنه، والبعضُ لاذ بالفرار، صمْتاً، لأنه لم يستطع أن يرضي الناس، ولا أن يُغضب السّلطة. في كلّ الأحوال، أخفق الكتّاب، في هذا المشهد، في أن يكونوا فعلاً من أفعال الصحافة المهنيّة، وانجرفوا – في ظهورهم أو في غيابهم أو في تردّدهم – ليصبحوا وجهاً من وجوه “خيانة الكلمة”، بمعناها الرمزي.

أمّا في المشهد الآخر، أي في ضفة الناس، المعارضة، والثورة، فإنّ الكتّاب والصحافيين والإعلاميين الذين توزّعوا في هذه المساحات الثلاث، سعوا لأن يُنجزوا ما أمكن من تحمُّل “العبء” المهني، والأخلاقي للصحافة. ولكن الصورة لم تكن سواءاً ولا مُرضيّةً في كلّ الأحوال، والحالات.

في المساحة الحرّة، غير المنتمية، إلا إلى النّاس، لم يجد الكاتب أو الصحافي ما يمكن أن يُسعفه على إنجاز مهمته. ليس هنا من كاتبٍ بحرانيّ بمستوى “المؤسسة” في القُدرةِ والتأثير والرّمزيّة، وعلى نحو يمكن أن يكون لاسمه وزناً مقدَّرا يفرض به وجوده رغماً عن خيارات المعارضة، ورغبات الثورة. عوَّض ذلك الخيار التلقائي الذي أوجده الناسُ أنفسهم من خلال نماذج كتابيّة متنوّعة، وبينها الرّاصد الميدانيّ، والمدوِّن الجَسور، والصّحافي الشّعبي. هذه النماذج استفادت من وسائل التواصل الاجتماعي، والإعلام الإلكتروني، لتقديم أفكارهم، ونقدهم، توثيقاتهم، ومشاعرهم الحرّة، بمعزل عن “ضرورات المرحلة” أو “تعليمات المؤسسة” أو “بيانات الثورة”. وفي حين أنّ هذه النماذج، في الغالب، لم تكن حرفيّة، ولم تهتم بمراعاة “قواعد المهنة”، إلا أنّها – وهذا المهم – أسهمت في “تعرية المشهد”، ونقل ما يجري على الأرض.

في مساحة الإعلام أو الصحافة المعارضة، كان من الطبيعي أن تنطبع الأقلام والصّور التي تُقدَّم بالأجندة والانتماء السياسيّ، بما يفرضه ذلك من خيارات، وسقوف، وانحيازات حزبيّة. ومع مرور أكثر من أربع سنوات من التشكّل الثوري الذي عاشه الإعلام المعارض، إلا أنّ الأخير ظلّ معنياً بأدوار تقليديّة تُشبه عمل “المناشير” التي تُوزَّع سرّاً، ولكن مع تطويرها في الشّكل وفي لغة الخطاب، فيما بقيت الأدوار الإعلاميّة محدودة. كانت الطبيعة “شبه الرسمية” لهذا الإعلام، والحظوة الرمزية لها بين قطاع واسع من الناس، والسخاء المادي المعقول الذي يُوفَّر لها للتطوير والجذب؛ سبباً في أن يكون ملجأ لأهم الكتّاب والصّحافيين المحترفين الذين انحازوا للمعارضة والثورة، ووجدوا أنفسهم – مختارين تارة أو صدفةً تارة أخرى – منخرطين في إعلام المعارضة.

مساحة الإعلام الثوري تظلّ محاطة بأكثر الإشكالات. لا يزال هذا الإعلام حريصا على التمسّك ب”المانفيستو الثوري الأول”، والاكتفاء بإحاطته شرحاً وترويجاً ومنافحة. المحاولات قليلة من أجل الخروج من هذه الدائرة، ولعله من المبكِّر الحكم على هذه المحاولات، سلباً أو إيجاباً. ولكن الواضح أنّ هناك عُسْراً في إقامة تلك التوليفة المطلوبة بين مصداقيّة “إعلام الناس” ومبدئية “الإعلام الثوري”. ولعلّ اللجوء إلى قواعد المهنة كفيلٌ بإنجاح مثل هذه التوليفة، والتي – أصلاً – لا تجد لها العديد من النماذج المتوافرة خارج التجربة البحرانية. ويمكن التنويه هنا بتجربة “مجلة العالم” التي كانت تصدر في لندن، والتي شكّلت اختبارا ناجحا، أو معقولاً، لفكرة التوليف “المهني” بين الإعلام “الشعبي” والإعلام الثوري أو المبدئي.

من الإجحاف إنكار وجود إضاءات أو نقلات إعلاميّة في مستوى المعارضة أو الثورة، ولكنه من العصيّ أن ينتمي هذا أو ذاك إلى “الواقع” من غير أن يعود إلى الإعلام الحرّ الذي ينشره الناسُ، المجهولون غالبا. وبعد ذلك، فإنّ هذا الإعلام، كلّه، لا يزال ينتظر منْ يدعوه لكي ينضج أكثر، ويتحوّل إلى وجود إعلامي راسخ، تتعدّد فيه الأدوار، ويلتزم بإمكانات وشروط المهنة، وأن يتخلّص من أدواء الحزب ومن رعونة التشطير، وأن يُسهم في “إعادة الأمل” بصحافة مُعافاة من جنون السلطة، ومن خرافة الغلبة، ومن “سوء التوزيع والإنتاج”.

 

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى