مقالاتنادر المتروك
رضا الغسرة.. سلامٌ وقبلة
“الذين لا تعرفهم، ولا يعرفونك، هم الأكثر أهميّةً للجميع”.
هي ساعةٌ واحدةٌ فقط. من بعيدٍ، بمقدار رمية بَصَر. أراني إيّاه درازيٌّ بطل – يستريحُ الآن في المعتقل – وقال لي: “هو ذاك، انظرْ إلى الترابِ تحت قدميه كيف يضجّ بالثّورة!”.
كان وميضاً، ثم اختفى بسرعةِ اللّهبِ الذي انتشرَ على الغزاة.
تكاد تكتملُ حول “رضا الغسرة” أهمّ علامات الأسطورة. قال نبيل رجب، مرّةً، إنه معجبٌ ب”رضا”، رغم أنه لا يؤيده في أسلوبه وخياراته. وهذا، بالضبط ما تفعله الأسطورةُ فينا. إنها تُباغتنا بالإعجاب، وتدعونا للرّكون إليها، والاستئناس بها، ولو كانت على خلافِ ذوقنا، وفكرنا.
زادوكَ.. وصرتَ تملكُ مئةً وعشراً من السّنوات. ولازال وفاضُك ينتظرُ المزيد.
مثلُ رضا كثيرون، ولكن منْ يملك مثلَ صوتِ عينيه؟ منْ له يدٌ كيديه؟
رضا، ذو الثلاثين ربيعاً، لم يُسلِّم نفسه للقيود والجلادين.. هكذا، كيفما كان.
عانى من العراء وترصُّد العيون الوقحة. قيل له: “إلى متى يا ابن العم، كفى تشرّداً وتشريداً. أخوتك يعانون، والدتك ليس لها إلا التّصبّر باستذكار مصائب زينب وغربة كربلاء!”. سمِعَ الكثير من الكلامِ الحاني أيضاً. ارتوى من السّماء، وافترشَ الثّورةَ كلّ صبحٍ ومساء.
اختار رضا المقاومة. والمقاومةُ هنا تعني، باختصار، عدمَ الإذعان. لا تُذعنْ للقيد. لا تُذعنْ للحصار. لا تُذعنْ للسّجن. لا تُذعنْ لكلّ هؤلاء الذين يُنظّرون لإستراتيجيّات”المصافحة” مع المجرمين. لا تُذعن للخواء. لا تُذعن للحوار. لا تُذعن للغشاوةِ التي تُحاكُ بكلامِ السّياسيين اللّطفاء.
يُذكّرني رضا الغسرة بحكمةٍ قالها عبد الهادي الخوّاجة ذات يوم. مررتُ عليه. في نهار يوم رمضانيّ. ذهبنا إلى مجمّع قريب من شقته في “الديه”. جلسنا. فرشنا أوراقاً. قُرْب أذان المغرب؛ قال بأنه يجب أن يذهب باكراً ليُساعد أمّ زينب في إعداد الإفطار. أثناء النّزول من المصعد، مرّ علينا منظرٌ لامرأةٍ عجوز تناوِرُ من أجل الصّعود عبر الدّرج. تضعُ قدماً فوق عتبةٍ مطليّة بالسّواد، وتمدّ يداً على عكّازها الخشبيّ اللامع، ثم تحملُ نفسها بصعوبةٍ ممزوجة بابتسامةٍ تغرقُ في وجهها وتختفي مع كلّ وجعٍ عابر. تبادلنا نظرةً خاطفة، وقال الخواجة: “أحياناً، يكون من الأفضل اختيار الطريق الشّاق، من أجل الوصول إلى المكان الصّحيح، ولو متأخّراً”.
اختار رضا طريقاً ليس فيه غير المشقّة. الدّرج الذي يصعد فيه رضا لا يحتملُ استرخاء أو استراحة من أجل اللّهو. كلّ الوقتِ صعودٌ وصعود. أيّ تراخٍ أو جلوس.. يعني تراجعاً وهبوط. أسْرعَ رضا في الخُطى والسَّهر، وارتقى في الدّرجات العُلى. الأحكامُ التي تتقاطرُ عليه، وتلك التي تنتظره، تُذكّرنا به كلّ ساعةٍ، وعند كلّ شُرفة.
رضا،
يا عيناً من جمْر،
يا كتفاً من نار،
يا عُصارة الوطن وكبرياء التراب،
لن تنساكَ اللّحظةُ، ولن يخذلك المقلاع.