البحرين اليوم – خاص
بقلم: علي مشيمع – ناشط سياسي بحراني
ارتفع سقف التفاؤل بين الناس بعد ظهور صورة سماحة السيد عبد الله الغريفي مع حاكم البحرين حمد الخليفة في ١٣ ديسمبر. واعتبر الكثيرون أن ذلك اللقاء كان مقدمة لإطلاق سراح دفعة من السجناء السياسيين في البحرين، وتمهيدا لمفاوضات أوسع حول الأزمة التي تعصف بالبلاد منذ تفجر الثورة في الرابع عشر من فبراير ٢٠١١.
تلك الآمال أخذت كثيرا من الناس لتأويلات غريبة، وانسياق مع الإشاعات التي ما أنزل الله بها من سلطان، حيث توالت الأنباء الغير بريئة تتحدث عن مفاوضات جرت بين الرموز المعتقلين ورئيس الوزراء الجديد سلمان الخليفة، فيما ظهر كتاب “يحللون” المشهد ويعطون إيحاءات بوجود انفراجة سياسية محدود لكنها مبشرة.
وفي غمرة الأنباء المتداولة كان الترقب والحذر يلف عوائل السجناء الذين أضناهم البعد ولوعة الفراق على أبنائهم في السجون، فيما كانت بعض الأقلام تستغل هذا الملف للضرب في المعارضة والنشطاء الذين أبدوا تحفظهم على السلطة وتحذيرهم من مغبة الإنخداع برئيس الوزراء الجديد أو والده الذي نقض العهد واستباح الحرمات وأراق الدماء. وبلغ الحد بالبعض إلى اعتبار أن أي تغريدة أو كلمة تعترض على السلطة هي حائل دون حدوث الإنفراجة المرتقبة، وكأن السجان قد وضع المفتاح في باب السجن وكان على وشك أن يفتح الباب لولا أن تغريدات البعض حالت دون ذلك!
أيام مرت كانت بعض العوائل تعيش حالة من الترقب والأمل وهي تحبس أنفاسها بانتظار البشارة. لتتبدد الغمامة وتنجلي الحقيقة من جديد، حيث تمخض الجبل فأنجب فأره، وذلك بإعلان “العفو” عن ١٦٩ سجينا جُلهم من الجنائيين بمناسبة ما يسمى زورًا “العيد الوطني”، وليسجل بذلك خيبة أمل كبيرة لمن أمل خيرا من شيطانٍ ” يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا”.
والسؤال هنا، هل قُدر لنا أن نعيش اليأس ونفقد الأمل، ونستسلم ” للواقع” ؟
يقول آية الله الشهيد نمر النمر إن شروط النصر ثلاثة، واحد منها ما مضمونه أن “تيأس من الظالم”، بمعنى أن لا تعلق آمالك على من ظلمك وعذبك وقتل اخوتك واسـتـبـاح منك الحرمات، ففي ذلك خطأ ونكبة ومصيبة!
وهذا لا يعني أن لا تعيش الأمل، فليكن أملك بالله أولا، وعدالة قضيتك ثانيا، وصمود شعبك ثالثا، وتلاشي قوة النظام الظالم رابعا، والتغيرات الإقليمية التي تؤشر على المستقبل الواعد للشعوب على الحكام المستبدين خامسا، وهكذا، ولكن إياك إياك أن تعلق آمالك على السراب. فكيف أرجو من حاكم قتل أخي خيرا، أم كيف أعلق آمالي على حاكم هدم بيوت الله جهرا، أم كيف آمن لحاكم نقض العهد والميثاق مرة بعد أخرى ؟!
من الوسائل الخبيثة التي اعتمدها النظام في الآونة الأخيرة لتحطيم معنويات السجناء السياسيين، هو إيهامهم بإطلاق سراحهم في وقت قريب، ونسج قصص وتسريب معلومات كاذبة تصب في ذات الهدف. وقد اطلعت على مجموعة من القصص من بينها نقل بعض المحكومين بالسجن المؤبد مثلا إلى العزل وإيهامهم بأنها اجراءات لإطلاق سراحهم، ثم إعادتهم إلى مكانهم بعد أيام بحجة أن المعارضين والنشطاء في الخارج أفسدوا عليكم الفرحة بسبب تصريحاتهم المسيئة. ولعب الضباط دورا مباشرا في هذا المخطط حيث قيل لبعض السجناء مباشرة بأن قرار الإفراج صدر عنكم وخلال أيام ستعانقون الحرية. وبشكل مدروس حاولت تلك الأجهزة إحداث أكبر شرخ ممكن في صفوف المعارضة عموما، وتأليب السجناء على النشطاء، بعد إيهامهم أنهم يحولون دون إطلاق سراحكم.
ولأن المكر السيء لا يحيق إلا بأهله، فإن ما حدث عزز من وجهة نظري أهمية وجود الخطاب المعارض، خصوصا في مثل هذه المحطات، وخطأ رمي البيض في سلة واحدة، وتعليق الآمال على وعود من نظام خبره شعب البحرين ولم ير فيه غير الكذب والخداع ونقض العهد. كما أن تلك التجربة بدورها ترفع من منسوب الوعي، ما يجعل الناس أكثر حذرا من الإنجرار إلى ما كان يعمل على تغذيته النظام وهو قلب الحقائق وتحميل المعارضة مسؤولية جرائم ومعاناة اقترفها النظام في الأساس وهو المسؤول عن كل نتائجها.
من ناحية أخرى فإن ما حدث كان يشير إلى وجود أزمة عميقة لدى النظام الحاكم، ويبحث فيها عن مخرج يحفظ ماء وجهه. فالنظام يعاني من أزمة اقتصادية خانقة، والنظام يريد أن يعطي صورة حسنة عن رئيس الوزراء الجديد ليقول بأنه مختلف عن سلفه، ويحمل مشروعا إصلاحيا واعدا، وبذلك يستحق الإشادة والدعم بدل اللوم والضغط الخارجي. فالملفات التي تلاحق النظام كثيرة، حيث لم يشفع له التطبيع في تبييض سجله الأسود في انتهاكات حقوق الإنسان، وقمع الحريات الدينية، واستمرار الأزمة السياسية داخليا، وترافقها مع أزمة خارجية مع دول الجوار مثل قطر. ومن جانب آخر فإن النظام موتور وحلفائه من أي تغييرات ولو شكلية من جانب الإدارة الأمريكية بعد خسارة ترامب.
ومع امعان النظام في التضييق على المعارضة واستهدافها، إلا أنه لم ينجح والثورة تكمل عامها العاشر في كسر شوكة رموز وقادة المعارضة وأخذ ثمن سياسي بالتنازل أو الإستسلام، ولذلك هو يجرب اللعب بورقة السجناء السياسيين بعد فشله بورقة القمع والطائفية.
هذه الحيثيات وغيرها تتطلب منا جميعا عدم الإستعجال ومحاولة فهم الأمور بروية، والحفاظ على الخطاب الرزين الذي لا يقدم ثمنا سياسيا دون مقابل حقيقي، فالنظام لا يتخذ قراراته من زاوية عاطفية، فهو يبحث عن طريق الحيلة والغدر ودغدغة المشاعر عن انتزاع ثمن سياسي وديني، وهو يحتفظ بورقة السجناء السياسيين ليستخدمها إلى ما يصبو إليه.
تشكل قضية السجناء السياسيين ملفا مؤرقا للنظام في البحرين، فهو لا يستطيع إحراز أي تقدم على صعيد الملف الحقوقي، والأزمة الداخلية دون أن يتجاوز هذا الملف، وبالتالي فليس من المستغرب أن يعمد مجددا للقيام بخطوات شكلية على هذا الصعيد. وأيا تكن الظروف في الأيام القادمة فواجبنا هو الإصرار على المطالبة بحرية السجناء دون قيد أو شرط، والإمتناع عن إرسال أي خطابات مناشدة أو ثناء للنظام الذي اعتقل وعذب وقتل، فإذا اضطر النظام لظروف سياسية قاهرة إلى إطلاق سراح السجناء فسيفعل ذلك دون أن توقفه التصريحات أو التغريدات التي تُكتب عن استبداده وظلمه، وإذا ما شعر بأن الإبقاء على السجناء يخدمه سياسيا فلن يبادر لإطلاق سراحهم حتى لو قدم الناس فروض الطاعة والولاء على اعتاب قصره.