“ذاكرة الكذب”: لماذا يكذب علينا ناصر؟
البحرين اليوم – (خاص)
بقلم: كريم العرادي
كاتب من البحرين
لم يكن عسيرا على أحد اكتشاف كذبة ناصر حمد الأخيرة بفوزه في بطولة “الرجل الحديدي”. كانت كذبة واضحة، وضوح الشمس التي سطعت على المشاركين في البطولة، وعكست أشعتها على الفائزين الحقيقيين. السؤال الذي يجب أن يسأله كل ذي ضمير حر، وكل شخص بلا ضمير، من المشاركين في انتخابات المهزلة والمقاطعين لها، هو: لماذا يكذب علينا ناصر هذا الكذب الصريح؟ ولماذا يتعمّد أن يستخف بنا هو وجوقته؟
توقف علماء النفس عند ظاهرة الكذب عند الأطفال. وهي من أكثر السلوكيات شيوعا في هذه المرحلة العمرية، ولكنها في الغالب تكون لأسباب لها علاقة بالتربية وأسلوب الأهل داخل البيت. إلا أن الكذب، في الحقيقة، هو سلوك بشري، ويلجأ إليه المرء إما ليكون طوق نجاة من أمر مزعج أو أزمة معينة، أو وسيلة للعبور إلى هدف ما، أو قد يكون حيلة نحافظ بها على علاقات خاصة أو عامة، أو لإخفاء شيء نكره اكتشافه بين الناس. كلّ ذلك لا يبرر الكذب بطبيعة الحال، ولكنها دوافع مفهومة ويمكن أن يعقلها المرء. ولكن السؤال هنا: من أي نوع هذا الكذب الواسع والفاضح الذي يقوم به ناصر؟
قد يكون الأمر له علاقة بالتعويض عن النقص، وهي أزمة لا علاقة لها – بالضرورة – بالواقع الذي يعيشه ناصر، أو الظروف المعيشية. فهذا “الأمير” المدلل وُلد وفي فيْهِ ملاعق من ذهب. وليس هنالك، كما يبدو، ما يضطره لأن يُعاني من “عقدة نقص” تجاه شيء محروم منه، أو تجاه شخص أرفع منه جاها أو مالا أو ما شابه.
ربما تكون هذه العقدة موروثة من أبيه، حمد الخليفة، وهو كذّاب شهير أيضا، وله سوابق في هذه المثلبة القبيحة. وأكثر أكاذيب حمد لها علاقة بالناس، أي العلاقات العامة، فهو يكذب عليهم في كلّ شيء: يتحدث عن الإصلاح، ويفعل على الأرض الفساد والإفساد. يتحدث عن العهد والميثاق، فلا يكف عن ارتكاب الغدر والخيانة. يتحدث عن “بيت لكل مواطن”، فيحوّل شعب البحرين إلى السجون والمقابر والشوارع والمنافي. كلّ شيء تحدث عنه حمد من وعود و”أيام جميلة” للناس؛ تحولت إلى النقيض تماما. هذا النوع من الكذب سببه عدم الثقة بالناس، وفقدان الانتماء إليهم، والشعور الداخلي بالتفوّق “الاحتلالي” عليهم، ولذلك فإن حمد يكذب كذبا مرضيا، أو ما يُعرف في المصطلح العلمي بـ”الميثومانيا”.
ورث، على الأغلب، ناصر هذا المرض من أبيه. فأصبح يمارس الكذب القهري أو المرضي في اللّيل والنهار. فظاعة الكذبة وافتضاحها لا تمثل مشكلة أو عائقاً أو سبباً للخجل، لأنه يعتقد أنه يقول الحقيقة، وهذه الحقيقة إنما هي “كذبة قديمة” تحوّلت مع التكرار إلى حقيقة في نظره، وذلك عن طريق ما يسيمه المختصون بـ”الإيحاء الذاتي”، فأصبح أسيرا لما يُسمى بـ”الذاكرة الكاذبة”. ويمكن اكتشاف أصحاب هذا المرض بسهولة، فهم يتحدثون عن أنفسهم دائما، وعن بطولاتهم، وقدراتهم الخارقة، وبكلام يبعث عن السخرية والاستهزاء. وكلّ ذلك محض هراء، ولا يوجد إلا في المخيّلة التي يسجن الكذّاب نفسه فيها.
لذلك لم يكن غريباً على الكذّاب ناصر أنه كتب ذات مرة في حسابه على الانستغرام بأنه قبِلَ بلقب “المعجزة” رسمياً. هذا اللّقب الذي أطلقه عليه الناس للسخرية من بطولاته الوهميّة؛ تحوّل إلى “لقب رسمي” وبإعلان من الكذّاب نفسه. هذا ما يعني أن يُصدّق الكذّاب نفسه، بعد أن يقع في شراك أكاذيبه التي يراها محض حقائق دامغة.
هذا الضخّ الهائل من الترويج لأكاذيب ناصر؛ ساعدَ بشكل كبير في تحويلها إلى ذاكرة ضخمة من الأكاذيب التي يراها حقيقة كاملة في دماغه. هو يلتفت يميناً وشمالاً فيرى الطّبالة وهم يباركون له بطولاته الوهمية، ويجد من أبيه كلّ ما يسهم في تحويل تلك البطولات إلى حديث الساعة، وعلى مانشيتات الصحافة الحكومية وموضوعا لحوار المحلّلين في الشاشات العوراء. بهذا المعنى، فإن الكذب، بالنسبة لناصر، يصبح “مسألة وجودية”، وبدونها يصبح وجوده مهدّداً، وبلا قيمة. ولذلك فهو يكذب، ويكذب، ثم يكذب ويعيد الكذب.