ثورة البحرين في العام ٢٠١٧: “ما رأيت إلا جميلا”
البحرين اليوم – (خاص)
[quote bgcolor=”#dddddd”]بالمقارنة مع حجم ونوع الجرائم التي ارتكبها الخليفيون خلال العام الماضي ٢٠١٧م؛ فإنّ الدرجات القصوى من الحضور والفاعلية التي أظهرتها ثورة البحرين خلال هذا العام توازي، وبشكل اكتمالي، حصيلة الأعوام الأخيرة من عمر الثورة التي تقترب من عامها السابع من غير أن تُصاب بالتراجع الذي يجعلها في دائرة الإنكسار النهائي أو الحصار المُطبَق أو فقدان الأمل في الانتصار، الذي ظل محلا للترقّب والانتظار دوماً. هذه الطاقة الاحتمالية، والفائضة، التي تحملها الثورة في السنة الجديدة أفضى لأن تكون قضية البحرين حاضرة على مستوى التفاعل الإقليمي والجدل الدولي والمنتديات الأممية المعنية بحقوق الإنسان، وكأن هذه القضية – التي طالما تعرّضت للتشويه والإهمال المتعمَّد – تخوض معركتها بكامل قدراتها التي تفجّرت مع أولى انطلاقة الثورة في ١٤ فبراير ٢٠١١م.[/quote]- لتحميل ملف “ثور البحرين في عام ٢٠١٧م” بصيغة pdf اضغط هنا
يمكن تلخيص القيمة المتجددة للثورة خلال العام المنصرم ٢٠١٧م بموقف والدة الشهيد سامي مشيمع وهي تنعى ابنها بعد إعدامه في يناير العام ٢٠١٧ بعبارة “ما رأيت إلا جميلا”، وهو موقف سرعان ما تجلّى في ملامح بقية أمهات شهداء هذا العام الذين كان أغلبهم من النشطاء والفدائيين والملهمين للحراك الثوري في البلاد، وهو ما انسحب بدوره على العنفوان المتفجّر في مواكب تشييعهم الفعلي والرمزي، وفي التظاهرات الحاشدة التي رفعت أسماءهم وصورهم قبالة أسماء آل خليفة وصورهم التي ديست تحت الأقدام وأُُضرمت فيها النيران، ليُشكل هذا المشهد الممتد على امتداد أشهر السنة الفائتة استفتاءا شعبيا دوريا على الأرض، ومن غير تحضيرات تعبوية مسبقة، وعلى النّحو الذي يُتيح لأي معارض أن يجادل، بثقة كاملة، لتثبيت حقيقة الموقف الشعبي الرافض لآل خليفة، جملةً وتفصيلا، ولإثبات وهْمِ وربما سوء سريرة منْ ينتقص من قدرة الناس على الصّبر وابتلاع كلّ المصائب والتحديات والمضي في الثورة رغم الجراح.
التقرير التالي يحاول الوقوف على تمظهرات هذه “الحقيقة” من خلال استعراض سرديّ للمشهد العام لثورة البحرين خلال السنة الماضية، والإضاءة على عناوين الاحتجاج الأبرز فيها، وكيف منحت التموينَ والتحفيز الأهم في استحضار ملف البحرين في الخارج، وبالتالي القدرة على إبطال مفعول الترهيب و”الإفناء” الذي استهدفه منهجُ القمع الخليفي الذي كان في العام ٢٠١٧م؛ تصاعديا من حيث النوع والأرقام الحسابية، وكان عنوانه الأساسي: “الإعدامات” والتهديد بنياشين “المشير” خليفة أحمد وقضائه العسكري.
البحرين في آخر ٢٠١٧: الطقس والتنجيم
في مؤشرات الطقس والمناخ؛ دخلت البحرين العام ٢٠١٨م بموجة من الضباب الكثيف وانعدام الرؤية في الشوارع، وكانت في ذلك تُشبه الحال العام لسياسات النظام الممتدة على طول السنوات الماضية، حيث كان الخليفيون يتخبطون في حبال من العتمة ويرمون عبثاً بكل صناديقهم في الضباب والسراب. أما في قراءات الفلك والطالع؛ فالمنجم اللبناني المعروف مايك فغالي وضعَ هذا العام ميعاداً لرحيل آل خليفة بعد أن يكونوا – وكما هو حال الأذيال دائما – وجبة سائغة لصفقة الترضية بعد الخسارة السعودية في الهجوم العسكري المتوقع على دولة قطر، وكما يتنبّأ فغالي الذي يتحدث عادةً بثقة وهو يسحر الناس بإطلالاته مع نهاية كل عام. أما في الجغرافيا، وبحسب التنبؤات التنجيمية إيّاها، فإن حدود البحرين ستُصبح شكلا آخر مع الحكم القطري عليها، وليكون بعدها “الجيوسياسي” عنوانا للخارطة غير المتوقعة للبلاد التي طالما ابتلت بالأغراب وتسلّط الأيادي الخارجيّة. هذا التلاقي بين واقع المناخ والخيال المجنّح لا يبدو بعيداً – ولو بالمصادفة “العجائبية” – عن الوقائع التي يصنعها الناس وعن طبائع الأشياء المحكومة بسنن الكون، على الأقل كما تُفصح عن ذلك سرديّات ثورة ١٤ فبراير اليومية.
كرة الإرهاب النارية: الإعدامات الجماعية
افتتحت البحرين عام ٢٠١٧م بفعالية “قادمون يا سترة”، وهي الفعالية ذاتها التي استفتحت بها العام الحالي ٢٠١٨ وفي نسختها الثالثة. مشهد التحضير للفعالية بين العامين الماضي والحالي، وبملاحظة أشكال المشاركة والتعبئة لها؛ يُفصح بجلاء عن فشل “كرة الإرهاب النارية” التي تدحرجت بشدّة مع مطلع ٢٠١٧ وحتى نهاية ٢٠١٨ وتحت عنوان “الإعدامات الجماعية”، أي مع تنفيذ حكم إعدام النشطاءِ الثلاثة في يناير ٢٠١٧ (سامي مشيمع، عباس السميع، وعلي السنكيس)، وإلى إصدار أحكام الإعدام بحق عدد من النشطاء في ديسمبر ٢٠١٧ (السيد علوي حسين، السيدفاضل عباس، ومحمد المتغوي، السيد مرتضى السندي، والشيخ حبيب الجمري). في جريمة يناير ٢٠١٧م؛ كان هول الجريمة لا يُقاس إلا بشعور آخر، مليء بالألوان، غمرَ البحرين وأهلها قبل تنفيذ الإعدامات في ليلة من الليالي الظلماء التي بكى فيها الفجر قبل أن تذرف عيون الأرض وأمهات الشهداء.
في ذات اليوم الذي كان يحتفل فيه الناس بسنتهم الجديدة وبصمودهم غير المنقطع في عاصمة الثورة؛ كانت الأنباء الشحيحة تتحدّث عن عملية “تاريخيّة” وغير مسبوقة تجري في مكان آخر يبعد عشرات الكيلومترات عن سترة، وفي بقعة طالما كانت عنوانا لأكثر من ٣ عقود على القهر وإنزال أقسى ألوان الانتقام والتشفي من المواطنين والمعارضين. من غير تفاصيل كاملة؛ يُعلَن في الأول من يناير ٢٠١٧م عن نجاح ١٠ سجناء في سجن جو المركزي في الفرار من السجن.
لم يكن العدد “عشرة” كافياً لإضفاء الدراما الساحرة على الحدث، ولكن أيضا وجود شخص بين العشرة المحرَّرين طالما هزيء بالجلادين وبالسلاسل، ونفّذ أكثر من عملية هروب من السجن: رضا الغسرة. تحوّل هذا الاسم يومذاك إلى “أسطورة حقيقية”، يلهج بذكرها الناس جميعاً، الموالون قبل المعارضين، حيث انتشرت القوات وكمائن المرتزقة على امتداد شوارع البحرين في أكبر عملية انتشار عسكري، منذ مارس ٢٠١١م، والهدف هو تنفيذ مهمة “حفظ ماء الوجه” بإلقاء القبض على الغسرة، ميّتاً لا حيّا. مشاعرُ مختلطة غمرت البحرانيين. بين التصديق والتشكيك؛ مضت الأمور بوتيرة متسارعة مع خفقان لا يهدأ لقلوب العاشقين، ومع الصّور التي تم تسريبها للغسرة كانت البهجة تُنعش المواطنين من جهة، وتنهش في أضلاع الخليفيين من جهة أخرى. جرى استقدام كل أجهزة الرصد والتعقب في البر والجو والبحر، وشارك الأمريكيون والبريطانيون في الدعم العسكري واللوجستي، ووُضعت كلّ الأجهزة تحت “التشغيل” على مدار الساعة، ولأكثر من شهر، لصدّ عملية متوقعة في أية لحظة لانطلاق “طرّاد الحرية”. وحصل ما حصل في الثاني من فبراير ٢٠١٧م، ونفذ الخليفيون التصفية الدموية للشهداء الثلاثة، رضا الغسرة، مصطفى يوسف، ومحمود يحيى.
أمهات “ما رأيت إلا جميلا”
الإعدام الميداني كان مفجعاً، لاسيما أن وقع جريمة الإعدام (١٥ يناير ٢٠١٧) لاتزال تدوّي في مقبرة الماحوز المحاصرة. إلا أن إضافة “الثلاثة إلى الثلاثة” كان شبيهاً بإضافة الثورة إلى المقاومة. اكتملت المشهديّة التي رسّخها عباس السميع وهو يُطلق مواقفه المصوّرة من داخل السجن، مع ذلك التحدي الصارخ الذي رسمته دماء الغسرة وصحبيه. في مفارقة الدماء غير المتوقعة؛ فإنّ استشهاد الثلاثة في عُرض البحر؛ أكّد للجميع حقيقة عملية “سيوف الثأر” بامتياز، ووضعَ النقاط على حروف البطولة والفداء التي لا لها مثيل إلا في السينما وخيالات كتّاب السيناريو. لهذا السّبب، ولأسباب أخرى، تحوّلت الجنائز الرمزية للغسرة ورفيقيه؛ إلى مناسبة غير منتظَرة لإضافة آخر عنصر في الأسطورة المُسماة بـ”الغسرة”: الشهادة. أصبح الأخير فارساً ملهما، وحاضرا بلا استئذان في القلوب والعقول، وأضحى الهتاف باسمه ورفع صوره شكلا من أشكال “توازن الرّعب” مع آل خليفة وجيوش المرتزقة. والنتيجة الأخرى، غير المنتظرة أيضا، هو أن كواكب أخرى من أمهات الشهداء ظهرن في سماء الشموخ، وأبدين استكمالاً لسيرة “ما رأيت إلا جميلا”، وعلى النحو الذي جسّدته “ثورة” والدة الشهيد الغسرة وهي ترفع يدها الصاخبة في وجه المرتزقة.
شهداء ٢٠١٧: مقاومة.. معاناة.. وفداء
قوافل شهداء العام ٢٠١٧م لها حكائية أخرى لسردية هذا العام المنقضي، وتجمع بين المقاومة والفداء من جهة ورسائل المعاناة والآلام داخل السجون من جهة أخرى. فخلال شهري يناير وفبراير كانت هناك “السداسية الجماعية” من الشهداء المقاومين، وخُتمت القائمة بالشهيد نبيل السميع (١٩ يونيو ٢٠١٧) وهو من الرعيل المخضرم الذي استنشق انتفاضة الكرامة في التسعينات، وكانت له قدمه الثابتة في ثورة ٢٠١١ وقد نعته القوى الثورية شهيدا مقاوما. وسرعان ما التحق بالكوكبة الشهيد المناضل عبدالله العجوز (٢٠ فبراير ٢٠١٧) بعد ملاحقته داخل أحد المنازل ببلدة نويدرات، ومن داخل سجن جو أُعلن عن استشهاد المناضل المخضرم محمد سهوان (١٦ مارس ٢٠١٧) بعد معاناة مريرة من آلام الرصاص الإنشطاري المغروس في رأسه وأنحاء أخرى من جسده، وبعد منعه لسنوات من العلاج. معاناة السجناء نقلتها أيضا روحا شهيدين صديقين تلازما لسنوات طوال، ولم يفرّقهما إلا الموت، وهما الشاعر منصور آل مبارك (١٧ مارس ٢٠١٧) والشاب حسين آل يحيى (٧ يوليو ٢٠١٧)، وهما من ضحايا الاعتقال والتعذيب في العام ٢٠١١، وقد تسبّبت ظروف السجن في إصابتهما بمرض السرطان، وقد كان محزناً أن ضحية أخرى شبيهة بهذه الحالة أُعلن عن استشهادها وهي الممرضة هدى صالح، وكان ذلك في يوم ختام فاتحة الشهيد آل يحيى، وقد تعرضت صالح للاعتقال في العام ٢٠١١ وقد أُصيبت لاحقا بمرض السرطان وعانت منه حتى إعلان وفاتها.
مع الشهيد الفتى مصطفى حمدان (٢٤ مارس ٢٠١٧) أُفتُتح عهد الشهداء الفدائيين. الشهيد الذي قضى متأثرا بالرصاص الذي أطلقه مسلحون ملثمون هاجموا معتصمي الدراز في ٢٦ يناير ٢٠١٧، كان أول الذين أثبتوا أنّ ارتداء الأكفان دفاعاً عن آية الله الشيخ عيسى قاسم لم يكن ارتجالا، أو استعراضا للعواطف الجياشة. تصدّى الشّاب لمسلحي الجيش الخليفي الذين سرعان ما تراجعوا بالخيبة بعد أن عجزوا عن التقدّم نحو محيط منزل الشيخ قاسم. الأقدار كان تحمل خارطة أوسع للشهداء من اللون الفدائيّ، وكأن المطلوب أن يتوازى شهداء المقاومة مع شهداء الفداء، ستة مقابل ستة! فكان يوم ٢٣ مايو ٢٠١٧ اليوم الأكثر دمويّة في يوميات الثورة، حيث تسبّب الهجوم العسكري على معتصمي الدراز في استشهاد خمسة الفدائيين الذين ارتدوا الأكفان ورابطوا عند عتبة منزل الشيخ قاسم لمنع وحوش العساكر من تلطيخ داره. عجائب الأقدار لم تتوقف عند هذا الحدّ، حيث كان من هؤلاء الشهداء شقيق أول الفدائيين، محمد حمدان، والشهيد الحيّ محمد الساري الذي تلقّى جسده أول رصاصات جيش آل خليفة في ٢٠١١م، ومعهما الشهداء محمد زين الدين، أحمد العصفور ومحمد العكري.
٢٠١٧: مقاومة مشروعة
في آخر يوم من العام ٢٠١٧، سجّلت بلدة الدراز – ورغم الضباب الكثيف وسوء الأحوال الجوية – مشاركةً في تظاهرةٍ حملت عنوان “خيارنا المقاومة.. لن نقبل المساومة“، وهو العنوان الذي سيمتد إلى العام الجديد مع فعاليات “أعظم الجهاد.. سيوف الثأر” إحياءا لذكرى إعدام الشهيد الشيخ نمر النمر وتنفيذ عملية “سيوف الثأر”. عنوان “المقاومة” وحق الدفاع المقدّس غطّى مساحات واسعة من العام الماضي، وكان ثمّة احتفاء حاشد بهذا الحق وبرموزه، وقد كان هناك حرص على تنفيذ فعاليات وتظاهرات رفعت هذا الشعار، وطُبعت على الجدران صور وبوسترات خاصة للشهداء المقاومين، وكان ذلك مرافقاً لسلسلة متواصلة ومتعدّدة الجهات من العمليات الميدانيّة التي عبّرت عملياً عن هذا الحقّ المشروع، وعلى النحو الذي تُنظّر له أدبيات القوى الثورية المعروفة. وفي السياق نفسه، أُعلن من جهات غير معروف أعضائها (بينها سرايا الأشتر) عن تنفيذ عمليات انتهت بمقتل جملة من المرتزقة المشاركين في القوات الخليفية، وآخرها العملية التي أعلنت عنها وزارة الداخلية في ٢٧ أكتوبر ٢٠١٧ وقالت بأن ما وصفته بـ”عمل إرهابي” استهدف حافلة لنقل “الشرطة” على شارع عام قريب من منطقة جدحفص، وأسفر عن مقتل مرتزق وإصابة ٩ آخرين. وفي ١٨ يونيو ٢٠١٧ أُعلن عن مقتل مرتزق آخر في بلدة الدراز بانفجار قنبلة، بحسب ما أعلنته الوزارة نفسها. وكانت عملية الهروب من سجن جو في الأول من يناير ٢٠١٧ تسببت في مقتل مرتزق أيضا وفق إعلان الوزارة الخليفية.
توالى من قِبل النظام الإعلان عن “خلايا إرهابية” هذا العام، وتواصل نشر أسماء وصور المواطنين والمواطنات الذين زُجّ بهم في هذه الخلايا المفبركة. وعمل النظام الخليفي على توفير غطاء إسنادي لهذه المسرحيات، فبالإضافة إلى الأكاذيب التي واصل النظام تسويقها بشأن ارتباط إيران وحزب الله والحشد الشعبي بما يجري في البلاد؛ فقد قدّم له داعموه في الخليج والدول الكبرى ترويجا آخر من خلال “تدويل” قوائم الإرهاب التي تلقفتها قبل ذلك أنظمة خليجية توفر الرعاية لآل خليفة. ففي تاريخ ٢٢ ديسمبر ٢٠١٧ أدرج البرلمان البريطاني، وبقرار حكومي، منظمات منها “سرايا الأشتر” على قوائم الإرهاب. وقد سبق ذلك إعلان الولايات المتحدة في ١٧ مارس ٢٠١٧ لكلّ من السيد مرتضى السندي، القيادي في تيار الوفاء الإسلامي، والناشط أحمد حسن يوسف، على قائمة “الإرهاب” الدولية، وذلك بدعوى ارتباطهما المزعوم بالسرايا. وكان السيد السندي ألقى في ١٧ يناير، وبعد إعدام النشطاء الثلاثة، خطابا ناريّا أعلن فيه بدء مرحلة جديدة تحت شعار “قبضة في الميدان وقبضة على الزناد“، وتلا ذلك انطلاق فعاليات شعبيّة في البلاد حملت هذا الشعار نفسه، وهو ما أعطى مؤشرا جديدا لتوسُّع الرؤية التي تؤمن بما تصفه بشرعية “المقاومة” في التصدي للجرائم الخليفية، والذي تقاطعَ أيضاً مع رؤى لها حضور في الأوساط الشبابيّة تدفع باتجاه إظهار أوسع نطاق ممكن ممّا يُوصف بعمليات “الردع” ضد القوات التي لم توقف انتهاكاتها عبر المداهمات واقتحام المنازل والتعدي على الأعراض.
تدويل “قوائم الإرهاب”.. وتمرّد الدراز
تحت سقف “الردع المشروع”؛ حفل العام ٢٠١٧ بجدولة منتظمة من “العمليات الميدانية” والاشتباكات الشديدة مع القوات الخليفية، وتمدّدت على اتساع خارطة البحرين. ولمقاربة رسوخ هذا الإصرار في الميدان البحراني خلال العام الماضي؛ فإنه يمكن الإشارة إلى سلسلة العمليات “الجريئة” التي نفذها شبّان محتجون في بلدة الدراز بعد تاريخ الهجوم الدامي على الاعتصام المفتوح في ٢٣ مايو، والذي استتبع تمديد خطوط الحصار على البلدة، وامتداده إلى داخل الأحياء السكنية، وانطلاقا من محيط منزل الشيخ قاسم الذي فُرضت عليه الإقامة الجبرية. وقد كان المخطط الرسمي أن يؤدي هذا “الإجهاز” الدموي إلى إسكات البلدة نهائياً، والانتقام مطلقا من اعتصام يومي بدأ في يونيو ٢٠١٦ وحتى يوليو ٢٠١٧، وهو ما فسّر مسعى النظام للإيحاء بعودة الأجواء “الطبيعية” إلى البلدة بعد تنفيذ الهجوم، والقيام بمقابلات تلفزيونية مفبركة داخل البلدة بحماية القوات، إضافة إلى قيام خليفيين بزيارة خاطفة وغير معلنة لبعض المؤسسات الرياضية الواقعة في أطراف البلدة، كما فعل ناصر حمد الخليفة الذي نشر مقاطع مصورة من الدراز حاول التضليل من خلالها بأن “الأمور تحت السيطرة”.
ولضمان تحقيق إسكات الاحتجاج في الدراز، شنّت القوات سلسلة من المداهمات وعمليات الاختطاف في صفوف الأهالي والشبان، وعمّمت أجواء إرهابيّة عزّزها تمركز المدرعات المصفحة عند منزل الشيخ قاسم وفي الأحياء الأخرى، ووضع كمائن وحواجز إسمنتية جديدة في محيط البلدة وداخلها. إلا أن تظاهرات “الأكفان” والتحدي التي اجتاحت البحرين بعيد هجوم ٢٣ مايو، سرعان ما وجدت فتيلها الرادع في عمق الدراز، وعند منزل الشيخ قاسم المحاصر، وذلك بعد قرابة شهر من الهجوم الخليفي على البلدة، وتحديدا في نهاية شهر أبريل، حيث نُفذت في ٢٨ أبريل ٢٠١٧ أولى العمليات الميدانية التي حملت شعار “”دماؤنا دون الأعراض” وجاءت بالتزامن مع “الحيوية” الجديدة التي بدأت تستعيدها البلدة في تنظيم الاحتجاجات والتظاهرات بعد فض الاعتصام بالقوة. وفي ٢٤ يونيو ٢٠١٧ نفذت مجموعة ثورية عملية مماثلة تحت شعار “مس سقر“، لتتلوها عملية “لن نتركك” في ١٧ أغسطس ٢٠١٧. وفي نهاية نوفمبر ٢٠١٧م نُفذت عملية “ما تركتك يا حسين”، وكان ذلك بداية التوسع لمثل هذه الاحتجاجات، حيث نُفذت عملية “تد في الأرض قدمك” في ١٣ ديسمبر ٢٠١٧م، ليتلوها بعد نحو أسبوعين بتاريخ ٣١ ديسمبر عملية “يا لثارات الشهيد”، ومع تظاهرة نهاية العام ٢٠١٧ في البلدة أكمل الأهالي إسقاط مشروع الإسكات والترهيب، الأمر الذي أخلّ بأجندة القمع وحرّك النظام بعدها مساع أخرى باتجاه خلخلة الوضع الجديد ومن بوابة الوضع الصحي المتدهور للشيخ قاسم.
الشيخ قاسم: الحصار، الوضع الصحي.. وتويتر “الزيرة”
لم تتوقف التظاهرات في مناطق البلاد نصرةً للشيخ قاسم الذي بقي مصيره مجهولا بعد فرض الإقامة الجبرية. كان الميدان، وبرفقة الإعلام الثوري، الأداة التي أبقت على قضية الشيخ قاسم حاضرة وسط صمت مطبق للمعارضين السياسيين في الداخل، وتحديداً من جانب أؤلئك الذين يُحسَبون على الشيخ قاسم وتياره “الديني”. الحراك الشعبي والثوري بلورَ معادلة على الأرض سلبت الخليفيين القدرة على انتزاع نتائج “مفيدة” من وراء حصار الشيخ قاسم وتغييبه القسري، وبالكامل، عن المشهد العام، وهو تغييبٌ كان أشبه ما يكون بمحاولة “الإماتة المعنوية والمادية المتدرّجة” للشيخ قاسم، وتمهيداً لاتخاذ إجراءات مضاعفة في استهداف الشيخ، بما في ذلك تسفيره خارج البلاد، حيث نُشر في وسائل الإعلام بتاريخ ٢٥ مايو ٢٠١٧ رفض رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي لطلب خليفيّ بإبعاد الشيخ قاسم إلى النجف الأشرف. فضلا عن صمود الشيخ وممانعته في الانصياع للإملاءات الخليفية؛ فإنه من المؤكد أن الاحتجاج العارم في مناطق البحرين أسهم على نحو جوهريّ في إحباط مشروع الاغتيال المعنوي للشيخ، وأفشلَ بالتالي مخطط إسقاطه من الذاكرة والحضور في الوجدان، وهو مخطط بلغ أوجهه مع الحرب الضروس التي شُنت على النشطاء والمعارضين لمنعهم من تداول وتوثيق ما جرى بعد الهجوم على الدراز وتداعيات حصار الشيخ.
استتبع هذا الفشل محاولة أخرى من الالتفاف المطبوع بالمكر ومن بوابة الوضع الصحي للشيخ قاسم الذي بدأ يتدهور لمستوى من الخطورة في أواخر نوفمبر ٢٠١٧، فيما جرى الضغط الداخلي والخارجي من أجل إتاحة العلاج المناسب له وبالطريقة التي يراها مناسبة، وهو ما تم مع بداية ديسمبر ٢٠١٧ حينما ظهر مدير مستشفى البحرين الدولي، فيصل الزيرة، إلى الواجهة بعد التمهيد الدعائي المسبق الذي قام به ابن عمه ورجل الأعمال تقي الزيرة. وقد بدأ فيصل الزيرة يُعلن عن متابعته لوضع الشيخ الصحي، وعن تحركاته الشخصية لنقله إلى المستشفى الدولي، واعتاد أن يعلن هذه “النشرة” على نحو يومي في حسابه على موقع (تويتر) الذي دشّنه لأول مرة ٤ ديسمبر ٢٠١٧. أثار ظهور الزيرة الجدل لاسيما وأنه منذ أولى التغريدات بدأ يكيل المديح لآل خليفة، ويتحدّث عن اهتمام حمد عيسى بالشيخ وصحته. علامات الاستفهام كانت حاضرة منذ اللحظات الأولى لهذا الظهور، وتلاقت هذه العلامات بعلامات الريبة والسخرية معاً بعيد استغلال الزيرة إمساكه بملف الشيخ الطبي للحديث عن الوضع السياسي العام، ولاسيما بعد أن استقبل حمد عيسى وكالَ له التمجيد والتقبيل، ونقلَ عنه حرصه ومحبته للشيخ قاسم ومحمِّلا إياه “قبلة” قال الزيرة بأنه أوفى بها وبلّغها الشيخ. صعّد الزيرة من تعليقاته السياسيّة مع تصاعد الجدل حوله، ولكن سرعان ما عاد الأخير إلى خلف الأستار مع نهاية “رحلة” الشيخ العلاجية وعودته إلى إقامته الجبرية، ليُغلق الزيرة حسابه في توتير مع تساقط الثلوج على منزله الإنجليزي.
مبادرة الغريفي: المصالحة.. أم العدالة الانتقالية؟!
لا شك أن ملف الشيخ عيسى قاسم شكّل إحراجاً عميقاً للنظام الخليفي، وهو ملف لم يستطع الخليفيون تسويقه وفق رواياتهم الملفقة، لا على مستوى الاتهامات الموجهة للشيخ، ولا على المستوى المرتبط بإجراءات الحصار وتوابعه المفروضة عليه. الإدانات الدولية، بما فيها الصادرة عن الحكومة الأمريكية وخبراء الأمم المتحدة؛ أرغمت النظام على ممارسة شكل من “التنفيس” على هذا الملف، وكان السماح لعلاج الشيخ، وظهورات حمد عيسى مع الزيرة؛ جزءا من التدليس الذي مورس للإيهام بعدم صحّة ما تورده المعارضة والتقارير الحقوقية في هذا الشأن. إلا أن “حجرة” أخرى أكثر إثارة للجدل سرعان ما رُميت في المياه غير الراكدة، ومن بوابة علاج الشيخ أيضا.
في ٢٨ ديسمبر ٢٠١٧ وخلال خطبته المعتادة مساء الخميس بجامع الإمام الصادق ببلدة القفول؛ وجّه السيد عبدالله الغريفي الشكر إلى حمد عيسى والمسؤولين الخليفيين نظير “العناية” بمتابعة الوضع الصحي للشيخ قاسم، وعَبرَ الغريفي من ذلك لإطلاق ما بات يُعرَف بمبادرة الغريفي للخروج من “الأزمة”، واضعاً “خارطة طريق” تبدأ بتنقية الأجواء عبر إلغاء أحكام الإعدام وتبييض السجون، وبعدها إطلاق حوار جاد يكون من شأنه التمهيد للتفاوض بين “الحكومة والمعارضة”. الأجواء العامة التي تمثّل ثورة ١٤ فبراير أُصيبت بما يُشبه الصدمة من خطبة الغريفي، ليس لأنه نأى عن تحميل النظام، وعلى رأسه حمد، مسؤولية الجرائم والانتهاكات، أو لأن كلمته انسابت مع المسار “التطبيعي” مع الوضع القائم والمسايرة معه، فكلّ ذلك لم يكن جديدا في خطاب الغريفي، وسبقَ أن أطلق خطابات تدور في المحاور ذاتها. إنّما المثير للإنزعاج والصّدمة كان في الملاحظة التي أثارتها حركة الحريات والديمقراطية (حق) ببيان لها بتاريخ ٣٠ ديسمبر ٢٠١٧ أعلنت فيه رفضها لمبادرته. فالسيد الغريفي لم يضع قوى المعارضة “في الصورة” ولم يستشرها، وكان طرحه “أحادياً” وأقرب ما يكون إلى “الرسالة المفتوحة” التي لم تخلُ من التمنّيات التي لا تتلاقى مع الوقائع الجارية على الأرض، ولاسيما بخصوص ضخامة القمع الخليفي وتمركز سلطة العسكر في البلاد، فضلا عن السياق الزمني لخطاب السيد الغريفي الذى أعطى “فرصة مؤاتية” لجماعة “الطرواديين” وأصحاب الأجندة الخاصة، وركوبهم الموجة التي يظنون أنها يمكن أن توصلهم أسرع إلى قبة البرلمان في ٢٠١٨. لقد كان مثيرا للإشمئزاز لدى كثيرين أن يكون المتسلقين ومكسوري الإرادة هم أول المتلقفين لـ”مبادرة” الغريفي، إلا أن هذا الأمر سيكون، وقد كان، من بين الأسباب التي أحالت ما ذكره السيد الغريفي إلى وضعه الطبيعي، باعتباره خطابا أمنياتياً تقتضيه طبيعة الموقع الديني العام للسيد الغريفي وتجنّبه تفاصيل الصراع المحتدم مع آل خليفة.
هناك مواقف أخرى أقل تأثيرا شهدها العام ٢٠١٧ باتجاه “تعبيد الطريق” لمصافحة الأيدي الخليفية الملطخة بالدماء. وقد حددت أبرز القوى السياسية والثورية مسارها الواضح في تحاشي تقديم “الهدايا المجانية” للنظام الذي لم يول أدنى اهتمام لتقديم أبسط التنازلات مقابل ذلك. وفي الوقت الذي تعدّدت أو تغايرت فيه أشكال التعبير عن تجنُّب هذا “السقوط السياسي والأخلاقي”؛ فإنّ العنوان المكثف الجامع كان في تأكيد مقاطعة الانتخابات البرلمانية المقبلة، ورفض المشاركة في أيّ مشروع “سياسيّ” يتحرّك وفق “خطوط المشاة” المفروضة بحكم واقع القمع القائم. وعلى هذا النحو؛ فإن العام ٢٠١٧ لم يحمل إلى العام الجديد ما يمكن أن يوسّس، بنجاح، لأيّ تطبيع مع آل خليفة وعلى قاعدة أن البحرانيين لا يستعطفون مبادرة من “الطغمة المجرمة” و”لا يستعجلون حلاّ”، وأن قرارهم هو “التوكل على الله وعلى صمودهم الواثق بالنصر”، وكلّ ذلك بحسب تعبيرات القيادي المعارض الدكتور سعيد الشهابي.
تصفية المعارضين والنشطاء: نموذج ابتسام الصائغ
في العام ٢٠١٧ تواصل المشروع الخليفي في الإجهاز على المعارضين والنشطاء، والذي أخذ وتيرته المتصاعدة في يونيو ٢٠١٦ عبر الحملات الجماعية لاستدعاء النشطاء والمعارضين للتحقيق معهم ومنعهم من السفر. إلا أن العام الماضي شهد تنويعاً كميا وكيفيا في هذه المواجهة، وباستعمال أداة “جهاز الأمن الوطني” الذي أعاد إليه حمد عيسى صلاحياته المطلقة في الاعتقال والإخفاء القسري والتعذيب الممنهج، وتولّى إدارة معركته ضد النشطاء في مبناه بالمحرق، مسترجعاً أقذر الأساليب التي دأب عليها في التعذيب الجسدي والنفسي والابتزاز والتحرش الجنسي. برزت في هذا الصعيد الناشطة ابتسام الصائغ، والتي كانت نموذجا قدّم أكثر من قيمة وفائدة في استخلاص الدروس من المعركة التي احتدمت بين آل خليفة وفئة النشطاء والمعارضين.
تعرضت الصائغ لأكثر من استهداف وعلى فترات متباينة، عبر الاستدعاء والتهديدات اللفظية والرسائل التحذيرية (حرق سيارتها)، إلا أن التجربة الأقسى التي تعرّضت لها كانت في ٢٦ مايو ٢٠١٧، ورغم العذاب الشديد الذي تعرضت له، بما في ذلك التحرش الجنسي، وعلى النحو الذي أصابها بالإعياء والانهيار النفسي وخضوعها للعلاج، إلا أن الصائغ سرعان ما استعادت قوّتها، وعبّرت عن تحدّيها النادر للجلادين عبر توثيقها لما تعرضت له، وعودتها بسرعة إلى تسجيل موقفها الحقوقي إزاء الانتهاكات، وتأكيدها على حقها في ملاحقة المتورطين في تعذيبها، وعلى أثر ذلك عاودت القوات الخليفية في يوليو اختطاف الصائغ، والانتقام منها بزجها في قضية الارتباط بمنظمات “إرهابية”، وتوقيفها ٦ أشهر على ذمة القضية التي أُعتقل فيها آخرون من النشطاء. لم تستسلم الصائغ هذه المرة للانهيار أمام التعذيب، ورغم الإجهاد والمعاناة ونقلها إلى المستشفى بكرسي متحرِّك، إلا أن صمودها المتواصل وإضرابها عن الطعام ورفقة الضغط المحلي والدولي والأممي؛ فرضَ على الخليفيين التمهيد لإطلاق سراحها بعد ترتيب لقاء لزوجها مع ما يُسمى بالمفتش العام بجهاز الأمن الوطني، إلى أن أُفرج عنها في ٢١ أكتوبر ٢٠١٧ مع نشطاء آخرين.
بدوره، قدّم المدوّن يوسف الجمري شكلا آخر من التحدي بعد تعرضه أيضا للاستدعاء والتعذيب في “جهاز الأمن الوطني”. فقد قام الجمري بتسجيل فيديو له وهو يتحدث عما تعرض له من تعذيب في الجهاز المذكور، ووضع الأمر تحت نظر الحاكم الخليفي، ثم قام بنشر الفيديو على حسابه في موقع (تويتر) في ٣ أغسطس ٢٠١٧، ليحصد تفاعلا واسعاً في الداخل والخارج، وعلى النحو الذي ضيّق على الجهاز “الأمني” حدود الانتقام منه مرة أخرى، واضطرّ الأخير إلى التعاطي المختلف مع شكوى الجمري الذي استُدعي مرة أخرى لتقديم شكوى رسمية بخصوص ما تعرض له من تعذيب، وأُعيدت إليه مقتنياته المُصادَرة، بما في ذلك هاتفه النّقال.
صمت “الفعل السياسي المعارض”.. وثبات “الشريف”
قد تكون حالتي الصائغ والجمري، وعلى اختلاف الوقائع وردود الأفعال وحجم التداعيات في كلٍّ منهما، إلا أنهما من الاستثناءات النادرة لوسائل الاحتجاج “العنادي” ضد سياسة الإجهاز الممنهج والاستدعاء الجماعية وعمليات الإسكات الجبري للنشطاء والمحامين والمدونين والصحافيين. وهي إجراءات تعرّض لها العشرات من الشخصيات “المعارضة” البارزة، واضطرّ معها العديد منها للصمت والكفّ عن الإدلاء بأي تعليق سياسيّ، واختفى بعضهم نهائيا عن المشهد السياسي المعارض، وهو ما أدى لغياب أي حراك معارض في إطار الجماعات السياسية، لاسيما بعد الإجهاز عليها نهائيا مع إغلاق جمعيتي “الوفاق” و”وعد“. وهذه المشهديّة لابد أن تكون حاضرة في الأذهان في قراءة وقائعيات الثورة في ٢٠١٧، وكيف كان الفعل الشعبي والثوري أكثر عنفوانا وتحدّيا وحضورا ومبادرةً من الفعل السياسي المعارض، والذي ظل مقتصرا في الحدود الدُّنيا على بعض الندوات الجانبية لبعض الجمعيات والتعليقات الجريئة على مواقع التواصل الاجتماعي، ومن ذلك ما تميّز به المعارض البارز والأمين العام الأسبق لجمعية (وعد) إبراهيم شريف، الذي بقيَ ثابتاً على رؤاه السياسية المعارضة ومحافظا على إطلالاته الناقدة، رغم تعرضه مرارا للاستهداف عبر الاعتقال والاستدعاء والمنع من السفر، وظلّ “الشريف” – كما يفضّل البحرانيون وصفه – صامداً على ذات الأقدام التي كانت شريكة في الافتتاح الأول لدوار اللؤلؤة في ٢٠١١م وحتى نهاية العام ٢٠١٧ الذي سجّل في وداعه واستقبال العام الجديد تدوينات تلخص رحلة الصمود هذه، وقال في إحداهما: “تذكروا وأنتم تودعون عام الآلام ٢٠١٧، وتستقبلون عام الآمال ٢٠١٨.. أن هناك نساء ورجالا وقفوا باستقامة لكي لا تنحني رؤوسكم. المجد للوطن، الخلود للشهداء، الحرية للمناضلين السجناء“. وأضاف في تدوينة أخرى: “وأنتم تستقبلون ٢٠١٨، تذكروا ما قالوه قبل أن يرحلوا: نهب أرواحنا.. لكن أبدا لا نتخلى عن أحلامنا. لا تتخلوا عن أحلامكم.. لا تتخلوا عن كرامتكم،، ولا تتخلوا عن إنسانيتكم“.
زينبيات الإباء: ١٠ نساء معتقلات مع نهاية ٢٠١٧
شهد العام الماضي استهدافا متنوعا للنساء البحرانيات، واعتقلت العديد منهن وأُتهمن بتهم سياسية أو ما لها علاقة بالأوضاع السياسية في البلاد، فيما انقضى العام ٢٠١٧ بتأييد محكمة خليفية لحكم السجن ٣ سنوات على السيدة هاجر منصور، إضافة إلى ابنها وأحد أقاربها، كما تميّز العام الماضي بخوض المعتقلات في سجن مدينة عيسى للنساء الإضراب عن الطعام، في مواجهة الإجراءات المفروضة عليهن بما في ذلك وضع حاجز أثناء الزيارة العائلية يحول دون الملامسة الجسدية، وشكلت تجربة الإضراب الناجحة مؤشرا على صمود المعتقلات وقدرتهن على مجابهة آليات الإكراه والإهانة وخطة تذويب المعنويات داخل السجن.
وقد وصل نصاب النساء المعتقلات مع نهاية العام الماضي إلى ١٠ نساء، وهن إضافة إلى هاجر منصور: طيبة درويش، فاتن حسين، نجاح الشيخ، منى حبيب، أميرة القشعمي، حميدة جمعة، مدينة علي، زينب مرهون، وفوزية ما شاءالله التي تم استدعاؤها للتحقيق في ديسمبر ٢٠١٧ وأعلنت النيابة العامة الخليفية في ١٩ ديسمبر توقيفها أسبوعا على ذمة تهم تتعلق بـ”إيواء مطلوب سياسي”، وخلال العام ٢٠١٧ تم اعتقال نساء أخريات خلال مداهمات شُنت على المنازل وتوقيف العديد منهن بعد استدعائهن للتحقيق، كما أن حالات من الاعتقال والاستدعاء ظلت طي الكتمان ولم يتم التبليغ عنها للرأي العام والمنظمات الحقوقية بسبب خشية أهالي المعتقلات من زيادة الانتقام الرسمي.
وعلى امتداد العام الماضي، أُطلقت العديد من الفعاليات الشعبية والثورية تضامناً مع النساء المعتقلات، كما نُظّمت حملات إلكترونية للكشف عن هذه “الجريمة” الخليفية التي تمثل “وصمة عار” مخصوصة بآل خليفة على مستوى دول الخليج التي تسودها تقاليد محافظة إزاء التعامل الخاص مع المرأة. وفي الوقت الذي شكّل مضيّ النظام في استهداف النساء البحرانيات إمعاناً في سياسة “الانتقام والتشفي” بسبب إصرار المواطنين على استمرار الحراك الشعبي والميداني؛ إلا أنه شكّل أيضاً مدخلاً لقراءة المعاناة الصحية الاجتماعية والآثار النفسية والعوائلية التي خلّفها اعتقال ما يُقارب ٤ آلاف معتقل، يعانون من حرمان ممنهج من أبسط الحقوق المتعلقة بالعلاج والرعاية الصحية والطعام المناسب وحرية ممارسة الشعائر الدينية، فضلا عن تعريضهم بصورة متكررة لسوء المعاملة والتعذيب الجسدي والنفسي، بما في ذلك الحبس الإنفرادي والإهانات اللفظية، ما صّعد من حالات الأمراض الخطيرة بين السجناء، بما فيها أمراض السرطان، والانفصام في الشخصية أو الاختلال الذهني.
وقد اضطرّ ذلك السجناء لخوض إضرابات متعددة عن الطعام، وتوثيق حالاتهم للرأي العام والمنظمات الحقوقية وتسريبها إلى الخارج، إلا أن الوضع العام المتدهور لم يتغير، والذي أخذ وتيرة ممنهجة من الحرمان والانتقام بعد ينارير ٢٠١٧، أي بعد تنفيذ عملية “سيوف الثأر”، وبما أضاف إلى المعاناة القائمة بالفعل بعد أحداث سجن جو في مارس ٢٠١٥ والتي وثق إفاداتها وبعد سجلاّتها كتاب “زفرات” التي أُطلق في الذكرى السنوية الثالثة لتلك الأحداث خلال حفل خاص في برلين بشهر مارس ٢٠١٧. والجدير بالانتباه هنا هو أن الشريحة الأغلب من المعتقلين هم من المتزوجين وأصحاب العوائل، ما يدعو لضرورة مقاربة الإنعكاسات التربوية والاجتماعية والمعيشية، المنظورة وغير المنظورة، لهذه الظاهرة التي تكاد تشمل كلّ البيوتات البحرانية. ومن المؤسف، ولأسباب تبدو مفهومة، فإنّ هذه المقاربة العلاجية لا تزال غائبة عن الاهتمام من المعنيين بمتابعة مثل هذه الملفات.
شوكة النشاط في الخارج: نموذج السيد أحمد الوداعي
أُحيط النشاط الحقوقي في داخل البحرين، وخلال العام ٢٠١٧ بتحديات جمة، وذلك مع إحكام القمع والترهيب ضد النشطاء الحقوقيين وتسليط التهديدات عليهم، وبلا هوادة، لمنعهم من التوثيق الحقوقي ورصد الانتهاكات. وقد تعرَّض المشهد الحقوقي في الداخل لأشد الامتحانات بعد اعتقال الرمز الحقوقي نبيل رجب في يونيو ٢٠١٦، وتحريك الملفات القضائية المتتالية عليه، وبدا منْ تبقّى فاعلا في هذا المشهد يحسِب بحذر الكلمات والمواقف خشية الملاحقة وتركيب الاتهامات الجاهزة. إلا أن الشرايين لم تنقطع نهائيا عن هذا المشهد، وظل الجيل الجديد من النشطاء الحقوقيين، ورغم محدودية العدد وصعوبة ممارسة العمل الحقوقي علنا وبالحدود المطلوبة؛ إلا أن هذا الجيل نجح في الإبقاء على تدفق الدماء في العمل الحقوقي، كما شكّل قناة اتصال أساسية مع المنظمات الحقوقية والنشطاء في الخارج، وبما أسهم في تعزيز “القوة الضاربة” للعمل الحقوقي خارج حدود البلاد، وعلى النحو الذي انعكس على وجه الخصوص في المشاركة الفاعلة في اجتماعات مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف، والتي استطاعت خلالها منظمة “أمريكيون من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان في البحرين” أن تكون “الجوكر” الأساسي في الإبقاء على الملف الحقوقي حاضرا على هذه المستوى الدولي، جنبا إلى جنب المنظمات الحقوقية الدولية والبحرانية الأخرى التي تعمل من الخارج، والتي أسهمت بدورها في توثيق الانتهاكات الخليفية عبر سلسلة من التقارير الموثقة التي لقت صدى واسعا في الإعلام الدولي، ومنه تقرير “غرف الموت” التي وثق استهداف النشطاء وتعذيبهم في جهاز “الأمن الوطني”.
على هذا الصعيد أيضا، برز المدير المسؤول في “معهد البحرين للديمقراطية والحقوق“، السيد أحمد الوداعي، الذي كان له تأثيره الهام في موضعة الملف الحقوقي البحراني في المشهد الغربي، سواء من خلال تفاعلات البرلمانيين البريطانيين والغربيين، أم من خلال وسائل الإعلام والصحف الغربية والأمريكية التي نشر فيها الوداعي سلسلة من المقالات الهامة، لينجح في اختراق التواطؤ الدولي و”التشويش” على اللوبيات الداعمة للخليفيين ولآل سعود وشركات العلاقات العامة والواجهات الخارجية المدفوعة الأجر التي تولت مهام تلميع الصورة وتبييض وجه النظامين، وهي الأدوار التي دفعت المفوض السامي لحقوق الإنسان، الأمير زيد بن رعد الحسين، إلى الامتعاض منها والتأكيد على فشلها في إخفاء حقيقة ما يجري داخل البحرين، وذلك في كلمة له خلال افتتاح الدورة ٣٦ لمجلس حقوق الإنسان في سبتمبر ٢٠١٧م، وذلك رغم الهجوم الخليفي اللافت الذي تكرر أكثر من مرة خلال العام الماضي ضد المفوضية وشخص الأمير زيد الذي أعلن قبيل نهاية ٢٠١٧ نيته عدم الترشح مجددا لمنصب المفوضية السامية بسبب ما وصفها بـ”الظروف الجيوسياسية” التي “قد تتطلب الركوع، وإغفال بيانات هامة، والحد من استقلال وقوة صوتي” بحسب ما قال.
ومن الجدير هنا، ولاستكمال مشهدية الحراك في الخارج، الإشارة إلى النشاط غير المنقطع للمعارضة البحرانية في لندن، ولاسيما الاعتصام أمام سفارتي آل سعود وآل خليفة، والذي ظل محافظا على استمراره منذ العام ٢٠١١م، كما واصل النشطاء البحرانيين والبريطانيين في تنظيم فعاليات “الملاحقة” للمسؤولين الخليفيين والسعوديين خلال زيارتهم إلى العاصمة البريطانية، ومن ذلك الملاحقة التي تعرّض لها الناطق السابق باسم تحالف العدوان السعودي على اليمن، أحمد العسيري، والذي تعرض لمحاولة “الاعتقال” الرمزي بتهمة ارتكاب جرائم الحرب في اليمن، ورُشقَ بالبيض احتجاجا على قيادة السعودية للحرب على اليمن منذ مارس ٢٠١٥م.
وفضلا عن النشاط الحقوقي الآخر في دول غربية أخرى، وبينها باريس وبرلين وسدني، فقد حفلت إيران ولبنان بفعاليات حقوقية وسياسية متواصلة أيضا. وعلى الرغم من تفاوت مستوى الخطاب المطروح في هذه المساحات الخارجية؛ إلا أن “الفسيفساء” العامة للنشاط البحراني خارج البلاد تشاركت في الإبقاء على الملف البحراني حاضرا في التلقيات الأجنبية، وأسهمت في نهاية المطاف في توفير الدعامة المساندة للحراك داخل الوطن ولجذوة الثورة غير المنقطعة، في الوقت الذي ظلت التساؤلات مطروحة خلال العام ٢٠١٧ بشأن ضرورة تطوير العمل السياسي المعارض، وتأخّر تشكيل جبهة موحدة للعمل السياسي، وبما يوفّر قاعدة لخلق قيادة سياسية تدير المعارضة وتوحّد خطوطها العريضة وتنطلق منها نحو آفاق أوسع من الضغط الدولي على الخليفيين وحماتهم. ولعل العام الجديد يوفر أجواءاً أكثر إيجابية تضمن تقديم اقتراحات جديدة أكثر تحفيزا للإجابة على هذه التساؤلات.
عسكرة الدولة: المشير إلى واجهة العنتريات مجددا
شكّل العام ٢٠١٧ عودة “وحشية” لـ”المشير” خليفة أحمد ومن بوابة القضاء العسكري الذي أعاد إليه حمد عيسى صلاحية محاكمة المدنيين، وأراد الخليفيون تثبيت هذه العودة “الوحشية” قبل نهاية العام الماضي من خلال الأحكام الجماعية بالإعدام التي أصدرتها المحكمة العسكرية في ٢٦ ديسمبر ٢٠١٧ بحق ستة مواطنين، بينهم الناشط وضحية الإخفاء القسري لأكثر من عام، السيد علوي حسين، حيث وُجهت إلى المتهمين تهمة “التفكير” في اغتيال “المشير”، وهي التهمة التي أثارت سخرية واسعة في الأوساط الحقوقية والقانونية، ولكنها كانت مناسبة لاكتشاف واحدة من مساحات التسريع بنقل الوضع في البلاد إلى إدارة عساكر “المشير”، ومن خلال ما بات يُوصف بـ”عسكرة الدولة” في البحرين، وتقديم ما يُشبه الممهّدات “القانونية” لإعادة تدوير خليفة أحمد بوصفه “حاكما عسكريا” في البلاد، وبما قد يؤسّس لانتقالات موضعية أخرى في العام الجديد.
في المسار أيضا، ومن حدود قد تكون قريبة من “المشير”؛ يخضع أمين عام جمعية الوفاق (المغلقة) الشيخ علي سلمان لمحاكمة جديدة بتهمة “التجسس” لصالح دولة قطر، وكشْف “أسرار عسكرية”، وذلك على خلفية الاتصالات الهاتفية بين الشيخ سلمان ووزير الخارجية القطري الأسبق حمد بن جاسم الذي تولّى قيادة “مبادرة” لمعالجة الوضع المحلي في العام ٢٠١١، وبتأييد سعودي وأمريكي آنذاك. قبل نهاية العام ٢٠١٧ بأيام عُقدت جلسة جديدة للشيخ سلمان في هذه القضية، وأُجّلت الجلسة إلى ٤ يناير المقبل. ولعل توجيه “اتهامات خطيرة” إلى الشيخ سلمان، ومن بوابة الأزمة القطرية القابلة للاشتعال أكثر خلال العام الجديد؛ يشير إلى الأبواب المسدودة أمام النظام الخليفي، بما في ذلك الفقدان البنيوي للتعاطي مع شخصيات معارضة كان له معها أكثر من محاولات للحوار و”التفاوض”، ما يعني أنّ الأمر – وفي خصوص الشيخ سلمان تحديدا – يقف وراءه انتقام مبيّت من “المشير”، والذي كان هدفاً لسهامٍ شديدة سدّدها الشيخ سلمان قبل اعتقاله في ديسمبر ٢٠١٤، وردّ فيها على تهديدات خليفة أحمد للمواطنين بقوله “وإن عدتم عدنا“، وقال الشيخ سلمان في حينه بأن الشعب يحتفظ بمستوى واسع من القوة، وأنّ احتياطي هذه القوة الأكبر لم يتم استعماله، ملوّحا إلى أن فتوى واحدة يمكن أن تدفع الآلاف للتضحية والفداء. ولاشك أن هذا الخطاب – الذي اختفى من المشهد المعارض في الداخل بعد تصفية “الوفاق” وتواري قياداتها – يمثل قلقا خليفيا جديا من الشيخ سلمان، وبما يدفعه للإبقاء عليه أطول فترة ممكنة داخل السجن، ولو بتلفيق “أتفه” التهم ضده.
رموز الثورة وتيجانها: صمود في وجه الانتقام
استمر خلال العام ٢٠١٧ الوضع الانتقامي ضد رموز الثورة وقيادتها المعتقلين في سجن جو، وقد كانوا محلا لاستهداف منظّم حرمهم من الزيارات العائلية لأكثر من ٩ أشهر، فضلا عن عزلهم عن السجناء والعالم الخارجي، وحرمانهم من العلاج، فيما تكررت في العام الماضي سلسلة الحوادث التي قامت بها قوات السجن عبر اقتحام عنبر “الرموز” وتنفيذ تفتيش استفزازي داخله ومصادرة مقتنياتهم الشخصية وكتبهم الخاصة، وبما شكّل توسيعا لنطاق الاستهداف والإهانة والحرمان مما تبقى لهم من مساحات ضيقة داخل الزنازن. ولم يكن من تبرير لهذه التصرفات الدورية والممنهجة غير “التشفي” من الرموز الذين ظلوا محافظين على مواقفهم المعروفة، ورفضوا تقديم التنازلات التي يريدها النظام بغية جرّ البلاد مجددا إلى “حوار ماكر” أو “مبادرات منقوصة ومنقوضة ابتداءا وانتهاءا”.
سُجّل العام المنصرم تدهورا متواصلا في الوضع الصحي لعدد من الرموز، ومنهم الأستاذ حسن مشيمع والدكتور عبدالجليل السنكيس. وقد حُرما مرارا وتكرارا من العلاج المناسب بسبب رفضهما الإجراءات “المهينة” لإدارة السجن، بما في ذلك وضع السلاسل خلال التنقلات الخارجية والذهاب إلى المستشفى. ومن جانبه، خاض الأستاذ عبدالهادي الخواجة إضرابا جديدا في العام الماضي، وتحديدا في شهر نوفمبر، احتجاجا على سوء الأوضاع داخل السجن، واستمر الإضراب عدة أيام، ورفقة إضرابات أخرى نفذها سجناء في سجني جو والحوض الجاف. وقبل نهاية العام أيضا عادَ الخواجة للواجهة مجددا بعد أن مورس عليه انتقام جديد بمنعه من إجراء المكالمات الهاتفية بسبب رسالة رفعها إلى ويزر الداخلية الخليفي، راشد الخليفة، وشكّل محتواها اختصارا لطبيعة الروح الصامدة للرموز المعتقلين، حيث ندّد الخواجة في رسالته بالإجراءات الانتقامية التي يعاني منها السجناء، مؤكدا بأنها لن تنال من معنوياتهم، وأضاف الخواجة في رسالته: “حتى الدول المستبدة التي تعتقل وتُعذب وتحاكم الناس؛ لا ترجع بعد ٦ أو ٧ سنوات لتنتقم من أسرى تحتجزهم بسبب أمور تحدث خارج السجن أو حتى خارج البلد”. وأضاف “ما تقوم به وزارة الداخلية ليس دليل على الشجاعة أو الشهامة؛ بل دليل على ضعف وخوف وتخبط. إنه دليل على أن منْ هو في السلطة يعيش في حالة عدم استقرار، ولأنه غير قادر على مواجهة العالم، فيقوم بالانتقام من أشخاص محتجزين كأسرى”. كما تحدّى الخواجة في رسالته وزارة الداخلية وقال “إن كانت وزارة الداخلية تعتقد بأن تصرفاتها ستنال من عزيمتنا ومعنوياتنا فإنهم يرتكبون خطأ كبيرا. بالعكس، هذا فقط يقوي إرادتنا ويجعلنا نتمسك أكثر بالطريق الذي أخترناه لأنه يعزز أحقية قضيتنا”.
وبهذه الروح ودّع الرموز العام ٢٠١٧ ليُثبتوا مع شعبهم – الذي أطلق حزمة من الفعاليات التضامنية معهم – بأن المنعطف المقبل لن يكون بعيداً عن المعنويات المؤمنة بحتمية النصر الموعود، وأن الإكراهيات الانتقامية لن تفتّ من عضدهم أو تضطرهم للدخول في أية أنفاق مظلمة من الحلول الظالمة التي تهدر جبالاً وأجيالا من التضحيات وسنيناً مطوّلة من صمود الناس في الميادين، وعلى النحو الذي ترجمته البرامج اليومية والأسبوعية والموسمية، واختصرته شعارات هذه البرامج والفعاليات المعبّرة عن الصمود حتى النهاية، والتمسك بأهداف الثورة الأصيلة التي حُفرت على منصّة دوار اللؤلؤة، ولازالت تصدح بها حناجر المتظاهرين التي تدوّي بإسقاط النظام والمفاصلة مع حمد عيسى، وبلا عودة إلى الوراء.
ناصر حمد: ترقية “أمير التعذيب” على طبق التطبيع مع إسرائيل
في العام ٢٠١٧ أكثرَ الخليفيون من تضخيم “الجلاد المراهق” ناصر حمد وتطعيمه بالمزيد من المناصب والأدوار والنياشين. في ٢٨ سبتمبر ٢٠١٧ عُيّن ناصر بموجب مرسوم أصدره والده عضوا فيما يُسمى بمجلس “الدفاع الأعلى”، ليكون أحد أعضاء المجلس “العسكري” الذي يحكم البلاد وفق الأوامر السعودية المباشرة. وقد جاء ذلك بعد رحلة قام بها ناصر إلى لوس انجلوس أمضى فيها صفقة “التطبيع” الرسمي مع إسرائيل ومن داخل مركز يهودي معروف بعلاقته الوطيدة بتل أبيب. وقد أفادت مصادر لـ(البحرين اليوم) أن أوساطا سياسية أمريكية (يهودية في إدارة دونالد ترامب) تحبّذ التوجه نحو إحلال ناصر خلفاً لأبيه، وهي ترى فيه خيارا أنسب من ولي العهد الخليفي سلمان حمد، لاسيما وأنه يمكن أن يكون رابطا ملائماً بين سعودية/ “محمد بن سلمان”، وإمارات/ “محمد بن زايد”. يجري الحديث هنا، تحديدا، عن صفات الجهل، والسطحية، والانصياع التلقائي لما يُمليه الأجنبي، مع الخضوع “الناعم” للإغراءات عبر ضخّ المزيد من الدعاية وتفخيم/ تفخيخ الذات المتضخمة لـ”المعجزة”.
لم يكن مستغرباً بعد ذلك أن يزور وفد “خليفي” مدينة القدس المحتلة، وبعيد إعلان ترامب المدينة عاصمة لإسرائيل. الزيارة التي لقيت شجباً شعبياً وعربيا واسعاً؛ وجّهت الأنظار مجدداً إلى العلاقات الوثيقة بين آل خليفة والإسرائيليين، وعلى قاعدة الدور الذي يمكن تقوم به تل أبيب في إضفاء رعاية إضافية على الخليفيين، وبالتوازي مع التعالق المتزايد بين إسرائيل وآل سعود، ومن بوابة العداء المشترك لإيران، والذي حُمِّل الخليفيون قدراً واسعاً من مهمة إظهاره وإطلاق المواقف المتكررة للتعبير عنه، وبما يُعزّز من مجابهة الثورة والإطباق على بيئتها الاجتماعية والدينية، وبالشكل الذي يُريح آل خليفة في استكمال مخطط الإبادة الثقافية ضد السكان الأصليين للبحرين، حيث يجدون في الإسرائيليين خير قدوة يمكن الاستفادة منها في ذلك.
البحرانيون كانوا سبّاقين في قطع جذور هذه الشراكة المزدوجة. فبأسلوبهم الخاص؛ وجّهوا رسائل التحذير إلى واشنطن من مغبة تطوير هذه الشراكة في اتجاه تغطية الجرائم الخليفية وزيادة الأضواء الخضراء لارتكاب القمع. فبعد الإذن الأمريكي الذي أعطاه ترامب لحمد لارتكاب الهجوم الدموي في الدراز خلال لقاء الاثنين في الرياض في شهر مايو ٢٠١٧؛ أعلنت قوى ثورية في ٣٠ من الشهر عن تخصيص الجمعة الأولى من كل شهر رمضان يوماً وطنيا “لطرد القاعدة العسكرية الأمريكية في البحرين“، لتنطلق بعدها فعاليات شعبية وميدانية تحمل الشعار نفسه. لم يكن ذلك منفصلا عن الرؤية التي ترسخت أكثر خلال العام الماضي، من أنّ الأمريكيين – وكما هو الحال مع البريطانيين – مثلوا العائق الكبير والحقيقي في وجه انتصار ثورة ١٤ فبراير، وتمكين السعوديين والإماراتيين من تقديم وسائل الدعم العسكري والمادي لآل خليفة ضد الثورة، وإلى المستوى الذي أهدر فيها الأمريكيون التزامهم المزعوم بمباديء حقوق الإنسان في علاقاتهم الخارجية وصفقات التسلح مع الدول الأخرى، فيما كان تعيين سفير أمريكي جديد، جستين سيبريل، بخلفية أمنية تثبيتا للسياسة الأمريكية في عهد ترامب، والتي واصل الانفتاح على آل خليفة، واستقبلت واشنطن بتاريخ ٣٠ نوفمبر ٢٠١٧ سلمان حمد على بساط ٩ مليارات من الدولارات لصالح صفقات تجارية وتسليحية تشمل صفقة طائرات إف ١٦.
منظمة “أمريكيون من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان”، ومن مقرّها في واشنطن، نددت بالانفتاح الأمريكي على الخليفيين، ودعت في أكتوبر ٢٠١٧ إلى “إجراء فحص شامل لأي اتفاقات تستلزم تدريبا أو نقل أسلحة إلى الحرس الملكي، أو أي وحدة أمنية (في البحرين) متورطة في الفساد والتعذيب”، كما دعت وزارة الخارجية الأمريكية إلى “التوقف الفوري عن إصدار تأشيرات دبلوماسية لناصر، في انتظار إجراء تحقيق شامل في الفساد ومزاعم الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي ارتكبها”. كما استنكرت المشاركة الأمريكية في أول معرض نظمته الحكومة الخليفية للدفاع والأمن أكتوبر ٢٠١٧، والذي جرى برعاية دعائية واسعة من ناصر حمد الذي اعتبرته المنظمة “أحد أكبر مرتبكي انتهاكات حقوق الإنسان في البحرين”.
وقد عمدت المنظمة التي يقودها الحقوقي البحراني حسين عبدالله إلى إعادة إطلاق حملة إعلامية تحت شعار “أمير التعذيب“، للتذكير بخطورة الحفاوة التي تمنحها واشنطن لناصر بالنظر إلى “موقعه البارز في المؤسسة الأمنية” ومشاركته في “القرار العسكري” لآل خليفة، وذلك بعد أن أصبح عضوا فيما يُسمى “مجلس الدفاع الأعلى”. وقد كان إطلاق هذه الحملة ضد ناصر، بحسب نشطاء عارفين، مفتاحاً مهماً في بناء قاعدة العمل الحقوقي الجاد في العام الجديد.
أوجاع العوامية.. والوفاء للشيخ النمر
شكّل النموذج السعودي، وكما في الأعوام الماضية، مصدرَ الإتباع والإلهام لآل خليفة، واتضح ذلك بنحو “أبشع” بعد زيارة ترامب إلى السعودية، ولقاء الأخير بحمد، وهو اللقاء الذي سجله المراقبون باعتباره “الضوء الأخضر” لتوسيع السعوديين من الحملة الدموية على مدينة العوامية، شرق السعودية، وتدمير حي المسورة التاريخي، ليأخذ آل خليفة الضوء نفسه لشنّ الهجوم على بلدة الدراز، والبدء في توسعة منحى ومحتوى الهجمات التي بدأت وتيرتها الجديدة في العام ٢٠١٦ وتطورت نوعيا في العام الفائت ٢٠١٧.
وكان لافتا أن المنظمات الحقوقية الدولية تبنت ذات الرؤية بشأن نظرية “الضوء الأخضر” بعد زيارة ترامب، كما أن تعليقات سياسية صدرت من بعض الجهات، منهم وزير خارجية إيران وحزب الله؛ أكدت على هذا المعني في سياق التعليق على القمة الأمريكية في السعودية. وتحدث نشطاء أيضاً عن بصمات سعودية “واضحة” في “نوعية” الجرائم التي تم ارتكابها قبيل شهر رمضان وخلال هذا الشهر من العام الماضي، بما في ذلك الجرائم التي طالت النساء وتشديد الحصار على بلدة الدراز ومنزل الشيخ قاسم، وبالاستفادة من الوسائل السعودية المعروفة في التضليل وفي قلب الحقائق.
وسّع السعوديون على نحو “جنوني” الهجوم على بلدة العوامية، وتم تدمير أحياء مختلفة من البلدة، وتطبيق سياسة “الأرض المحروقة”، وباستعمال الأسلحة الثقيلة، وتخلل ذلك تنفيذ عمليات اغتيال لعدد من الناشطين. وتغطّى النظام السعودي بذريعة “الهجوم على رجال الأمن” للإمعان في هذه الحرب، وبالاستعانة بغطاء أمريكي واضح، مع توجيه إعلامي مضلل للتغطية على ما يحصل في البلدة التي جرى الاستمرار في خطة شيطنتها وتحويلها إلى “وكر للإرهاب”.
تلقف آل خليفة هذا “النموذج”، وتم تطبيقه في البحرين، حتى باتت الأذرع السعودية متقاطعة مع أذرع الخليفيين، وبالامتداد من العوامية إلى الدراز، وذلك بحسب التصريحات واللافتات والشعارات التي تطرقت إلى أوضاع المنطقة الشرقية والبحرين، وبعد زيارة ترامب على وجه الخصوص. وعلى هذا النحو، سُمع من الموالين لآل خليفة دعوات التحريض للأخذ بساسية الاجتثاث والتدمير التي تتبعها السعودية في المنطقة الشرقية، وتنفيذها في البحرين، كما فعلت الكاتبة التابعة للنظام، سوسن الشاعر، التي “دعت” النظام إلى تدمير بلدة الدراز والبلدات البحرانية على نحو ما يفعل آل سعود في حي المسورة في العوامية، بدعوى القضاء على “أوكار الإرهابيين والمخربين” و”تجفيف” الينابيع التي يعتمدون عليها.
موقف البحرانيين كان معروفاً. انطلقت التظاهرات والاحتجاجات الواسعة على مدى العام ٢٠١٧ نصرة للعوامية ودعماً لشّبانها ومقاومتها. رُفعت في مناطق البحرين شعارات “العوامية تأبى الإنكسار” و”شهيدكم شهيدنا“، ليتجدد رباط الثورة والشهادة بين البحرين والقطيف، والذي عزّزته عمامة شيخ الشهداء الشيخ نمر النمر الذي أحيى البحرانيون الذكرى السنوية الثانية لاستشهاده، وحفروا اسمه وصوره في جدران المنازل، وأقاموا قبرا رمزيا وفاءاً لصوته الاستثنائي الذي ناصرَ ثورتهم وهتف بشعاراتها إيمانا بأن الخطوط بين البحرين والشرقية واحدة في الأهداف والمصير، وقد كان مليئا بالمعاني الدالة أن يكون الشهيد النمر، جنباً إلى جنب الشهيد رضا الغسرة، محلقاً في سماء البحرين وهي ترسّخ أقدامها على الأرض وتستقبل عاماً جديداً.