تجليات الاستيراتيجيا: المعارضة تدعو للحوار وولي العهد يظهر ببزته العسكرية
تزامنت دعوة القوى السياسية المعارضة للحوار، وما سمته تقديم تنازلات متبادلة، من جميع الأطراف، مع افتتاح الملك حمد قاعدة الحد البحرية ومعسكر الجليعة، وظهور ولي العهد، الذي روّج إليه من قبل الإعلام المحلي والدولي وبعض الجماعات المحسوبة على المعارضة، على أنه حمامة سلام، ظهوره في بزته العسكرية، وهي من المرات القليلة.
يكثف المشهد ذاك، الاستيراتيجيات المعارضة والخليفية في التعاطي مع الحدث المتفاقم في الجزيرة الصغيرة، الواقعة في إقليم مضطرب، ويجدد التساؤل بشأن ما إذا كانت السلطة راغبة بالفعل في التواصل مع القطاعات الوطنية المختلفة، للخروج بتصورات متوافق عليها من أزمة البلاد الطاحنة.
كما يجدد ذاك المشهد التساؤل عن خلفيات دعوات الحوار المعارضة، ومدى فعاليتها والجدوى منها، وهي (الدعوات) التي تبدأ ميتة.
وتعمل السلطة على تمتين قوتها المخابراتية، وتدعيم أوراقها الأمنية والعسكرية والاقتصادية والديمغرافية تحسبا للحظة تبدأ فيها المساومات، ويطرح ذلك من جديد حجم الأوراق التي يفترض أن تعمل المعارضة على تجميعها للحظة التسويات، التي مازالت بعيدة المنال.
غني عن القول هنا أنه لا يختلف كثيرون على المفاوضات، وليس الحوار، آليات متعارف عليها عالميا للانتقال من مستنقع الاختلافات إلى رحابة التوافقات، بيد أن الخلاف يتركز حول ما إذا كانت الحوارات المفترضة في البحرين ذات جدوى بالفعل، وبالنسبة لي فإني لا أزال أعتقد أن كل الحوارات، التي تمت، وتلك المرتقبة، إن حصلت في ظل الجو الراهن، ستكون نسخة رديئة لطبعات قديمة وباهتة.
المشهد أعلاه (دعوة المعارضة للحوار مقابل افتتاح النظام قواعد عسكرية جديدة) تتزامن أيضا مع بدأ العام الخامس لدخول القوات السعودية البحرين، والذكرى الرابعة للاعتصام الحاشد في دوار اللؤلؤة (فبراير ـ مارس 2011).
لقد عنى ذاك التدخل، ضمن معان أخرى عديدة، انهيار المنظومة الداخلية، وسحق قدرتها على انهاء مشكل البلاد. فكما سحقت الآليات العسكرية دوار اللؤلؤة وأزالت النصب التذكاري التاريخي، فقد سحقت أيضا قدرة البلاد على النأي بنفسها عن الصراعات الإقليمية، وباتت السعودية وإيران تطلان برأسهما في المنامة، شاء من شاء وأبى من أبى.
ولا أدرى أين ستقيم القاعدة البحرية البريطانية مقرا لها في البحرين، لكن من المحتمل أن تكون قاعدة الحد، التي تم افتتاحها قبل أيام، مقرا للقوات البريطانية التي ستحضر بعد خروجها قبل نحو 45 عاما، لتذكر من جديد بأن البحرين حاملة طائرات (صغيرة) بريطانية، وليس فقط حاملة طائرات أميركية عملاقة.
لقد مرّت الذكرى الرابعة للتدخل الإماراتي السعودي المزدوج دون أن نسمع من المعارضة تقديرا للموقف، فيما غابت الجماهير عن الشوارع، تقريبا، خصوصا مقارنة بما حدث في 14 فبراير الماضي، وفي تقديري فإن ذلك تعبير فاقع عن الخلل العسكري لصالح النظام بوجود الدعم العسكري والسياسي والاقتصادي الخليجي، لكنه تعبير أيضا على أن القوى المحلية المعارضة قدمت فيما وسعها وبات على اصدقائها القيام بما يمكنهم، ليس فقط لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولكن أيضا لإعادة التوازن إلى نصابه بين السلطة والمعارضة.
إن المشهد المعبر (الدعوة المعارضة للحوار المتزامنة مع افتتاح قاعدة الحد) لا ينبغي أن يغيب عن بال الرأي العام، وأن يرسخ القناعة لدى أي مشكك بأن النظام يرى في الحل الأمني خياره الرئيسي، فيما يظهرُ ولي العهد محاولة للتقرب من العسكر، الذين لا يبادلونه المودة، ويزيدُ من بعده للمعارضين.
وقد بات ولي العهد بالفعل يقود الحرب ضد الوفاق، أو لنقل أنه بات، كما هو دائما على أي حال، جزء من الواجهة التي تعمق العداء للوفاق، وللجمعيات السياسية الأخرى، التي لا يَخفى مقدار عدم تماسكها، وتراجعها رويدا وريدا عن شعارات فبراير 2011.
بعد حين سترى الوفاق نفسها وحيدة، فيما أشقائها الجمعيات يسيرون في الخلف، بيد أن ذلك لن يدفع كبرى جمعيات المعارضة سريعا للانفتاح على القوى المعارضة الأخرى، التي تسمي نفسها ثورية، وستظل (الوفاق) تأمل، وهي التي تدرك صعوبة ذلك، أن يفتح النظام أفقا للحوار، وستظل تؤجل الحوار المعارض المعارض إلى أن يكون لحدوثه أو عدم حدوثه معنى.
النظام ماضٍ، إذا، في تمتين جبهات الأمن، وقد تضاعف بالفعل حجم قوى المخابرات إلى الضعف أو أكثر، وكذا تم ويتم افتتاح مقرات أمنية وسجون، ولا يمنع ذلك من استمرار تشكيل مؤسسات صورية مثل مؤسسة حقوق الإنسان، وأمانة التظلمات، ومفوضية السجون، وستظل هذه المؤسسات البائسة تلعب دورا في تزييف الوقائع، ومع ذلك ستتعامل معها المعارضة المعتدلة باعتبار ذلك فنا للممكن.
معلوم، إنه ليس من بين خيارات الجمعيات المعارضة العنف، وهذا محل إشادة، كما أنه ليس من بين خياراتها زيادة جرعات التنسيق مع القوى الأخرى، وهذا محل امتعاض.
ومع إني لا أمانع أن تدعو الوفاق السلطة للحوار، فقد تمنيت أن تدعو الوفاق فرقاء المعارضة، للحوار، لعل الداعي لاصلاح النظام وذاك الداعي لاسقاطه يلتقون للمرة الأولى (تصورا للمرة الأولى)، وقد دخلت الأزمة عامها الخامس، ويصدرون ولو بيانا لا أحد يفهم شي، لكنه يظل بداية.
ولا أدري كيف يمكن أن تبرر الوفاق رفضها للحوار مع أشقائها من المعارضة، بعد كل هذا الوجع المشترك.
تحديات الداخل، واضطرابات الإقليم، تفرض قراءة مختلفة، ورفع حالة الطوارئ لدى أجنحة المعارضة، فقد كشفت الـ 15 عاما من حكم الملك حمد، التي تمر ذكراها هذا الشهر، أن البلد ينحدر سريعا إلى كارثة، ربما لا يراها البعض، الذي يعتقد أن النظام ينتصر، والحقيقة هي أن النظام يأخذ البلد في أحسن الأحوال إلى نموذج سوريا أو ليبيا، ولعل البعض يقول، هذه مبالغة، فأقول: قالوا ليبيا غير وسوريا غير واليمن غير والعراق غير، ويخطئ من يقول البحرين غير، فالحريق الإقليمي لن يستثني إلا أولئك القادرين على التفاهم على الانتقال إلى سلطة معبرة عن إرادة الشعب.