الوطن.. أو حلم العودة إلى التراب
البحرين اليوم – (خاص)
في ٢٣ سبتمبر (العام ٢٠١٤م) منعتني سلطاتُ المطار في دبي من دخولها. في الأوراق الرسمية التي “انتزعتها” لاحقاً؛ كُتب السبب بعبارةٍ روتينيةٍ خانقة: “ممنوع لأسبابٍ أمنية”. بعد عامين على هذه الحادثة “الشخصية” (المغامَرة المتأخّرة والأخيرة للعودة للوطن)؛ تبدو فكرة العودة وفلسفتها ملحّةً أكثر اليوم والوطن يمرّ بأخطر تهديدٍ للاغتيالِ والإبادة، ومع هذه الفكرةِ تتوارد لدى بعض (المغتربين، المنفيين نفيا اختياريا) العديدُ من الهَلوسات والملامَات الوجدانية بشأن “الخطوة الغبية” في الخروج منه، أو التأخُّر في عدم اتخادِ قرار العودة إليه بسرعةٍ “قبل انغلاق الحدود” وانسداد الطريق.
في الخواطر الداخلية لا مكانَ لحساب المخاطر الممكنة، أو التفكير العقلاني “التبريري” الذي يُعدِّد سيناريوهات الخطر الأمني ويلوكُ الاحتمالات المملّة حول ما سيحصل بعد ذلك. سيكون علينا أن نزيحَ “الفذلكات” ذات البريق السّاحر التي يُعالِج بها المغتربون فكرةَ توطين الذات بعيداً عن الوطن الأصليّ. أغلب الظّن أنّ المسألة لها علاقة بمدى القدرة (المراوِغة) على كسْر الرابطة بين التراب الماديّ من جهة، وإعادة توليف الذكريات في الوطن وتحويلها إلى نسق تخيّلي “امْتاعي” من جهةٍ أخرى. هذه حيلة ذهنية نُسْتدرَج إليها دون أن ندري، أو نتظاهر بذلك.
نبيل رجب، قبل عامين أو أقل، اختار العودةَ للوطن بعد جولةٍ حقوقية في عواصم أوروبيّة. اختارَ ذلك وهو على يقينٍ تام بأنّ الوضع لن يكون عاديّاً هذه المرة. قلّبَ رجب العديدَ من التّمنيات والرجاءات التي تكالبت عليه لثنيه عن العودة. كان يمكن أن ينكسرَ عند التبرير الأوّل المتوقَّع: “وجودك خارج السجن أنفعُ للقضيّة”. أظنّ أنّ رجب أثبت قوّته الحقيقيّة هذه المرّة، وأكثر من كلّ المرات التي مرت عليه في أعقاب الانقضاض على الثورة في مارس ٢٠١١م، وبروزه آنذاك وحيداً – إلى حدّ ما – وسْط الشّوارع، وبين النّاس، وعلى شاشات العالم. لقد كان مُخيَّراً بين الرّاحةِ في الخارج (المُبرَّرة والملحّة بدون شك)، وبين المعاناة غير التقليدية التي تنتظره في حال العودة إلى الدّاخل. جرَّب رجب أنواعا غير يسيرةٍ من المعاناة، وهو تحرّرَ منها أكثر من مرّة، وكان بيديه أن يتخلّص نهائياً من الوقوع فيها من جديد، وبخياراتٍ وفُرَصٍ لا حصر لها في الخارج. لكنّه فعلَ عكس “المنطق الوَرَقيّ” وخالفَ “العقل البارد”، ومالَ إلى الوطن، إلى ترابه.
ماذا لو فعلَ رجب العكس؟! ماذا لو بقيَ في الخارج وشاركَ في إدارة معركة الحقوق من قارّات العالم؟ ألن يكون سفيراً بحرانيّاً لا يُشقّ له غبار في كلّ بقعةٍ من بقاع حقوق الإنسان؟ ألن تكون أوجاع النّظام، حينها، أشدّ مرارةً، وأنجع في إنهاكه وإهلاكه؟! هذه أسئلةٌ منطقيّة أخرى، أعني “تبريريّة” بامتياز.
هناك فرق بين تبرير الفعل، وبين الهروب/ التهرُّب من نتائجه. في حال رجب كان يُتاح له التسلّح بالكثير من التبرير الواقعي الذي لا يُرجّح له خيار “العودة للوطن”، ولكنّ شيئاً آخر كان يتحرُّك فيه، شيئاً يُشبه ما كان يتحرّك في عبد الهادي الخوّاجة (الذي يصفه رجب ب”أستاذه”) حينما خلع عن كتفه عباءة “حقوق الإنسان” وصعد منصّة دوّار اللؤلؤة.
قدّم الخوّاجة استقالته من “منصبٍ” مرموق بإحدى المنظمات الدّوليّة، واختارَ أن يصعدَ “منصّةً” يعرفُ الجميعُ أنّها ستذهب بأصحابها إلى السّجن والعذابات الطّويلة. فما الذي كان يتحرّك في الخواجة؟ هو “الوطن”، بمعناه الملموس. تجرّع أبو زينب الغربةَ طويلاً. ذاق كأسَها (الحلوة والمُرّة). حين عادَ عودةً كريمةً؛ كان حلمه أن يبقى فيها، ويُعيد ترميم علاقته بالمكان وأهله. علينا أن نفسِّر سيرةَ الخواجة في “الاحتجاج” وفي تحمُّله الاستِثنائي لضراوةِ المحن والعذابات التي واجهها (وعائلته)؛ من هذا الشّعور غير المنطقي (أو الطفوليّ)، ولكنه الشّعور الطبيعيّ، والأكثر انسجاماً مع اللحظة الأخيرة (غير المتكررة) التي يُقرّر فيها الإنسانُ موقفه من مُجسَّم القهر.
هذا شيءٌ تداخلَ في رجب وهو يدير ظهرَه للعقل التبريري، ولكن دون مزاعم أو ديباجات مُعلَنة. نحتاج أن نفهم شيئاً آخر من خلال نموذج عبد الجليل السنكيس. الأكاديمي المرموق الذي كان بعضُ “الحقوقيين الورديين” يتقصّون عمّا إذا كان سيصعد منصّة الدّوار، لكي يتحاشوا الصعود برفقته والجلوس معه في صفّ واحد، وللتملُّص بعدها من تحمّل مسؤولية أيّ “شيء متطرّف” سيقوله السنكيس (قال لي ذلك حرفيّاً أحد هؤلاء الحقوقيين “الكبار”). لَوَى السنكيسُ إغراءَ الأكاديميا الذي كسرَ (ويكسرُ) حواجبَ المغرمين بساحةِ الأفكار والأقوال، ممّن اختاروا مبنى الجامعةِ لضمانِ طولِ السّلامةِ وكمالِ التّباهي الفكريّ. تركَ أستاذ الهندسة سحْرَ أن يكون من قادةِ أكبر جمعيةٍ سياسيّة، وأن يكون في هَرم تيارٍ يحظّى بشارعٍ عريض وبشّرعٍ مبين. ترك ذلك وأرهقَ نفسه، ونفرا آخرين، في صناعةِ خيارٍ آخر، وتيارٍ بديل (أو رديف)، ومن أوساط النّاس البسطاء، ومن الميادين الأولى التي قلّ المناصرون لها/وفيها. لم يكن يحلم السنكيس بالكرسي والجدران الأربعة، ولا همّه الرّكونُ للرّاحة وإلقاء المواعظ الباردة، وما كان – بالطّبعِ – يوطّنُ نفسَه على الجلوس بانتظار الفرجِ المكْرَمة أو بلوغ الترقية المشروطة. حرّكَ عكازَه، وخاضَ في الخيارِ الذي يطمئنّ له، أو يطمئن معه. هذا شيء آخر عاشَ مع رجب والخواجة والأستاذ حسن مشيمع ممّن تناوشهم صراعُ البقاءِ في وطن المحن، أو البحث عن مِنَحِ الحياة خارجه.
هل هو اختلافٌ في الأمزجة والطبائع التي يتمايز فيها الناسُ ويختلفون؟ ربّما. رغم ذلك، علينا أن نؤجِّل الحسابَ (النقدي، وليس القَدَري) مع أولئك الذين لا تخفى رائحتهم غير العطرة وهم يتاجرون باسم الوطن ويذرفون الدموعَ على عذابات المواطنين (في ذات الوقت الذي ينغمسون فيه بمسرّات الغربةِ والملاهي المفتوحة على المدى)، وأن نُبديَ الهدوءَ، والرّضا، والتّسليمَ لكلّ منْ رأى وقرّر أن يكون في الوطن ويبقى فيه ويعود إليه، ويُصبح بين النّاسِ (أكانوا محاصَرين أو معتقلين، لا يهم)، وألا يتضوّر عقلُنا أو نشقّ جيوبَ المنطقِ أو نهنيء أنفسنا بخيارها وهي تسْبك النّصائحَ الذهبيّة والخيارات المريحةَ لأولئك المغامَرين، المغمُورين، المغْرَمين بالوطنِ الترابِ، وليس بذكراه أو ذكْره أو ذاكرته، فقط.