المعتقل الناشط علي قمبر يرقد في المستشفى بعد إصابته بالسرطان ودخوله مرحلة الخطر: صليل الجراح
البحرين اليوم – (حكايات الضحايا)
في ١٧ ديسمبر ٢٠١١م، كان علي قمبر في زيارة للأماكن المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة. تسجّل الصورةُ في حكاية قمبر أكثر من معنى. في مدلول التاريخ؛ يرتبط ١٧ ديسمبر في ذاكرة البحرانيين بعيد الشهداء، وهي مناسبة كان علي قمبر واحدا من الشّبان الذين حرصوا على مداومة إحيائها، والتحفيز على تنظيم التظاهرة المركزية التي تخرج بالمناسبة انطلاقا من جامع رأس رمان، بمحاذاة المنطقة الدبلوماسية بالعاصمة المنامة. اقترن علي بهذه التظاهرة حضوراً واحتضاناً ودعوةً، وإلى يوم منعها عسكرياً في العام ٢٠٠٩م، عندما حاصرت القوات الخليفية المنطقة، وطوّقتها بالمرتزقة والمركبات العسكرية.
علي قمبر.. في السلمانية محاصرا بالسرطان
آخر الأخبار التي تحصّلت عليها (البحرين اليوم)، تفيد بأن المعتقل الناشط علي قمبر، من بلدة نويدرات، نُقل إلى مستشفى السلمانية الحكومي بعد أن تمكّن منه مرض السرطان. السلطات الخليفيّة تتكتم على آخر تطورات الوضع الصحي لعلي لأسبابٍ كثيرة، نعرف بعضها في سياق هذا التقرير. بحسب المعلومات؛ فإن علي يرقد في المستشفى بعد دخوله مرحلة “الخطر” نتيجة انتشار الورم السرطاني، وبعيد سلسلة من العذابات وعمليات الانتقام التي تعرّض لها علي منذ ما قبل ثورة اللؤلؤة وحتى آخر اعتقال تعرّض له قبل أكثر من عامين.
(البحرين اليوم) تُطلق من خلال هذا التقرير نداءا عاجلاً إلى كلّ منْ يعنيه الأمر من النشطاء والجهات الفاعلة، وإلى الذين يملكون أدوات الضغط في الميادين وفي ساحات النضال بالخارج؛ للتحرّك السريع من أجل إنقاذ حياة علي التي يُخشى أنها بلغت “أخطر وآخر مراحلها”.
إنّ الوفاء لعلي قمبر، وتقديم ما يمكن من أجل إنقاذ حياته؛ هو وفاءٌ للثورة ولشرايينها التي تمتد من تسعينيات عيسى قمبر، مرورا بعقد “الممانعة”، ووصولاً إلى ثورة فبراير المجيدة. وتقدّم (البحرين اليوم) هذا التقرير تعبيراً عن يسير من هذا الوفاء الذي يستحقّه الأوفياء الذين تنحني لصمودهم الجبال.
سيرةٌ من بريق عيسى قمبر
يعرف الذين عاشوا العصر الرابط بين انتفاضة التسعينات (١٩٩٤-٢٠٠٠م) وثورة البحرين (٢٠١١م)؛ كيف أن الوجوه التي أخذت من مزيج هذين الحدثين؛ كانت أكثر تأثيراً وتضحيةً في الجولات التي شهدتها الفترة الانتقالية (الرمادية)، والتي امتدت من العام ٢٠٠١ وحتى العام ٢٠١٠م، وهي الفترة ذاتها التي شكّلت واحدة من أهم نوابت ثورة ١٤ فبراير ٢٠١١م، حيث أمدّتها بالعناوين “المطلبية” وبوضوح المسار والثقة الكبيرة بالإمكانات الشبابية وقدرتها على صنع “المعجزة”. في هذه الخارطة؛ كان يتحرّك علي قمبر. فقد عُرف بمشاركته الناشطة في الفعاليات والبرامج التضامنيّة التي شهدتها ساحات “الممانعة”، وكان وجهه معهوداً لكل الذين كانوا منشغلين وقتها بالقضايا المصيريّة، وبعيداً عن الملفات الطارئة التي غرِق فيها كثيرون آنذاك، وتحت تأثير “الكذبة” الكبرى: “المشروع الإصلاحي”.
في تظاهرات التضامن مع المعتقلين، والوقفات الاحتجاجية التي كانت ترفع مطالب الحرية والعدالة ومحاكمة القتلة والجلادين.. كان لعلي أقدام ثابتة، وأياد لا تعرف الارتعاش. ظلّ مرابطا في هذا الخيار الصّعب رغم أنّ السلطات وضعته تحت المراقبة والمطاردة. في إحدى التظاهرات التي انطلقت في قلب العاصمة، وعند النيابة العامة الخليفية، حوصرت التظاهرة بالقوات، وكان علي مشاركا فيها، وشوهد وقتها يقف بجوار المرحوم الشيخ محمد علي العكري وناشطين آخرين. كان رفاقه قلقين عليه لأنه كان وقتها مطلوباً، ولكنهم كانوا يعرفون أن وجوده في الظاهرة – رغم وضعه الأمني الحرج – ليس مفاجئا أو مستغرباً، فهو سليل الشهيد عيسى قمبر، الذي لازال يُغذّي خواطر البطولة في الشّباب، ويُديمُ إنعاشَ الإباء في القلوب المطمئنة.
اعْتُقل علي قمبر في ٢٠٠٩م في سياق حملات القمع التي شهدتها البلاد وقتئذ بعد أن فكّت فعالياتُ تيار الممانعة “الإزارَ” عن النظامِ الكذّاب وكشفت حقيقةَ “المشروع الخليفي”. محبة الناس لعلي كانت واضحة بعد الإفراج عنه، حيث خرج أهالي بلدة نويدرات لاستقباله عند مدخل البلدة، وأُطلقت الزغاريد هتافات الفرج، ورفعوه على الأكتاف وهو محاط بألوان الفرح وطلقات البهجة التي عمّت الجميع.
كان علي محبوباً عند الجميع في بلدته، كما تروي المصادر لـ(البحرين اليوم). وشائجُ المحبة لا تبدأ من القرابة النسبية بالشهيد عيسى قمبر؛ ولكن أيضا لأن كثيرين يرون ملامح الشهيد في شقيقه، إنساناً وروحا لا تعرف الانكسار. هو معروف في بلدته بنشاطه الاجتماعي وحضوره في المناسبات العامة، ولا يتردد في تقديم العون والخدمة لمن يحتاجها، وما استطاع إلى ذلك سبيلا. كان وجهه البشوش مطبوعاً في عيون الأهالي، من الصغار والكبار. قبيل اعتقاله الأخير بأيام قليلة، يتذكر كثيرون حضوره في حفل تكريم متفوقي البلدة الذي نظمته جمعية النويدرات الخيرية. كان وقتها مطارداً، وعلى قائمة المطلوبين السياسيين، وتم تكليف العديد من العيون والمخبرين لتعقّبه والتمكين من القبض عليه. لكن علياً أصرّ على حضور الحفل، حيث كان ابنه واحدا من أؤلئك الذين أكرموا أباهم فأحرزوا مكاناً لائقا في المعرفة وعلوّ الأخلاق، وهو ما يجب أن يردّ عليه الأب عليّ بأحسن الردود وأكرمها، ولو كان في ذلك خطورة على حريته، بل حياته. ربّما كان ذلك مؤشرا، إضافيا، على أن النماذج الشّابة التي يمثلها علي قمبر؛ لا تُمسك شيئا واحدا بيدها، بل هي تجمع الأشياء، أكثر الأشياء، في اليدين الواسعتين، وفي أيّ محمل يمكن لطاقة المرء أن يُضيفه إلى قدراته الممكنة.
علي قمبر.. بيوت الله التي أحبّ.. ومنها أُختُطف
كان علي من الذين انشغلوا بتوثيق التعديات على مساجد نويدرات. ويروي أحد رفاقه كيف أنه كان مهتماً بشكل حثيث على متابعة ملف أحد المساجد التي اقتُطع جزء من أرضها بأمر من “الديوان الملكي” ومُنحت إلى أحد الوجهاء العاملين في الديوان. سارعَ علي إلى متابعة الملف، وقام بجمع بعض أبناء البلدة، واختار منهم عددا من كبار السنّ؛ للذهاب إلى المسجد وإقامة الصلاة فيه، ثم أجرى توثيقا مصوَّرا حوله، وأعدّ بناءا عليه ملفا جال به على الجهات المعنية، بما في ذلك إدارة الأوقاف الرسمية، والمجلس العلمائي والجمعيات السياسية المعارضة.
ربّما ليس غريبا بعد ذلك أن يُختطف علي قمبر، في المرة الأخيرة، من أحد المساجد الذي كان هدفاً لحرب الإبادة الثقافية الخليفية. فقد نفذت مليشيات مسلحة مساء الثاني من سبتمبر ٢٠١٤م هجوماً على مسجد سلمان الفارسي، بعد أن أعدّت كميناً مخابراتيا اعتمد على معطيات المخبرين الذين تعقّبوا عليّاً فترة من الزمن. نُقل علي مباشرة إلى مبنى التحقيقات الجنائية، سيء الصيت، وبدأت هناك مباشرة وجباتٌ متتالية من التعذيب الوحشي الذي غذّاه تضخّمُ العداء والانتقام الذي يكنّه المعذبون لهذا الشّاب الذي أرهق إجرامهم لأكثر من عقد من الزمان.
خبر اختطاف علي أصابَ الأهالي بالحزن والغضب. لقد دنّس الخليفيون قداسة المسجد واقتحموه مثل الغزاة، واختطفوا الشّاب الذي كان تذكارا لهم بمعانٍ كثيرة من الوفاء والتضحية وعمل الخير للجميع.
غُيّب مصير علي مدة من الزمن. كان ذلك إشعارا بأن عذابا لا يرحم يتمّ تمريره على جسده المثخن بجراح السنوات الماضية. كان واضحا أن “انتقاما” مضاعفا يدفع الجلادين للإمعان في إنزال الجراح والعذابات على علي. أوْصلوا التعذيبَ الجسدي والنفسي بإصدار حكم قاس بسجنه عدد من السنوات، مُضافا إليها إسقاط الجنسية. لم يكفهم ذلك، وتواصلت في كلّ فرصة عمليات الانتقام، وكانت انتفاضة سجن جو المركزي في مارس ٢٠١٥م؛ من الفرص “الثمينة” التي أفرغ فيها الجلادون سموماً من الحقد والكراهية. وتقول شهادات من زملاء له في السجن؛ بأن عليا تعرّض لاعتداءات “وحشية” خلال تلك الأحداث، وتم استهدافه بشكل مركز في وجهه وعلى رأسه، وهو ما تسبّب له في مضاعفات صحية مزمنة، تلاقت مع المشاكل الصحية التي بدأ يعاني منها خلال اعتقالاته السابقة قبل الثورة. مع استمرار معاناته، طلبَ علي من إدارة السجن بأن يتم نقله للمستشفى وتلقي العلاج المناسب. كانت آلامه لا تُحتمل، ومع إحجام سلطات السجن عن الرد عليه طلباته؛ كان يلحّ أكثر على نقله للمستشفى وتحت وطأة الآلام المتزايدة. حينها، اضُطرّت السلطات لنقله إلى المستشفى، وتم وقتها اكتشاف مرض السرطان الذي تسلل إلى رقبته، حيث تمكّن منه في وقتٍ كان يمكن السيطرة عليه لو أُتيح له العلاج العاجل والمناسب.
غضبّ ووفاء.. وتهديد
في أبريل ٢٠١٧م؛ أُجريت لعلي عمليتان جراحيتان. أشعرَ ذلك أهله بأن حياته في خطر، وبشكل جدّي. حاولت العائلة الحصول على زيارة عاجلة لرؤيته والاطمئنان عليه، إلا أن السلطات رفضت ذلك، وذلك على عهدها في إخفاء “معالم” الجرائم التي تخطّها على أجساد الضحايا والمعتقلين.
أشعل تدهورُ وضعه الصحي وإصابته بالسرطان بسبب التعذيب؛ الغضبَ في صفوف الأهالي، فنظّموا سلسلة من الفعاليات والاحتجاجات تضامناً معه، وعُلّقت اللافتات على جدران البلدة وفاءا للشاب الذي ما بدّل تبديلا في مواقفه، وفي كل المحطات الصعبة التي كان فيها قولُ الحقّ ثمنه العذابات. أُقيمت مجالس الدّعاء، ورُفعت الرايات الحمراء وعيداً للجلادين بأن جراحات علي لن تمر دون ردّ رادع. اشتعل المحتجون غضباً في وجه قوات المرتزقة ومدرعاتهم التي تحاصر البلدة، وكانت تلك واحدة من ليالي الغضب الحامية التي عُرفت بها بلدة “راية العز”. استولى الغضب على آل خليفة، وهدّدوا أهله الذين تمّ استدعاء عدد منهم للتحقيق بسبب فعاليات التضامن مع علي. تعرّضوا للمضايقة، وحوصرا بالترهيب و”الوعيد” الذي يعُرف به المنهزمون، وحين ينكشف الغطاء عن أفعالهم المخزية.
أُحيط الوضع الصحي لعلي بما يُشبه الحصار والتعتيم اللافت. كانت المعلومات عنه شحيحة جدّا، ما أظهرَ “التضييق والترهيب” الذي تعرض له أهله. مصادر السجن أكدت بأن نكسات صحية متتالية تعرّض لها علي، وبسبب الإهمال الصحي المتعمَّد الذي لم يتوقف ضده. وفي إحدى المرات؛ تعرّض لجلطة في قدمه، وبعد علاج مكثف تماثل للشفاء من هذا المرض الذي كشفَ مناعته الضعيفة، والتي بدأت بالانخفاض على نحو كبير، حيث أُجريت له أكثر من عملية لاستئصال الورم من رقبته، ما كان لها آثار سلبية على مناعته الصحية وسرعة تعرّضه للانتكاسات الصحية، ولاسيما في ظل الحرمان الممنهج من العلاج، وسوء الأوضاع الصحية داخل السجون.
يستقرّ علي في قلوب محبّيه، يرفعون الأكفّ طلبا له بالشفاء. هناك ثقة لدى أصدقاء علي ورفاق دربه بأن يوماً قادماً سيشهد خروجهم إلى ساحة البلدة لاستقبال علي، وبقية الأحرار، للاحتفال بنصر موعود، وهي ثقة متوقّدة مثل وجه علي، وكما هي صفحته البيضاء في نصرة الحق، والوقوف صمودا في وجه الجراحات. وقوفٌ موروث من ذلك المشهد الذي سجّله عيسى قمبر وهو يستقبل رصاصات الإعدام الغادرة.