المطاردون.. أمانة وضمانة
لأكثر من مرة راودتني فكرة أن أكتب عن المطاردين، أولئك الذين تتقطع بهم السبل، فلا مأوى ينامون فيه، ولا أكل بيتيّ متوفر لهم، ولا حضن عائلة يطمئنون إليه.
هم.. ليسوا أمواتا فيُنسون، ولا أحياء فيُعاش معهم.
يذكرون أهلهم في كلّ حين، ولا يستطيعون رؤيتهم إلا من خلال ألفِ ستار، وهرباً من ألف عين. غادرهم الإطمئنانُ، وسكنهم الوجلُ.
وضعوا أعمارَهم على راحات أيديهم، وراحوا يقامرون بها “مقامرة الشرفاء”، وفي زمنٍ لم يعرف إلا مقامرة الخبثاء وأهل الغدر.
“ ماذا بك، لماذا ترفض مساعدته، رجلٌ له أعوام وهو مطارد وبعيد عن أهله، لا يعيش الأمن، وهذه هي فرصته للهروب، وأنت خائف متمنّع، ألم تسمع قوله تعالى (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا)”.
تلك كانت جملة أطلقها شخصٌ لا أعرفه، ولم ألتق به قط. فقط أخبروه أن علي عبدالامام يحتاج لتوفير بعض الأمور لكي يهرب، فقام هذا الشريف، المسؤولُ عن عائلةٍ وأولادٍ ووظيفةٍ، ببعض الاتصالات لترتيب تلك الأمور، واصطدم بأحد أصدقائه الذي رفض مساعدته، فقال له تلك الكلمات.
لكنها كانت المرة الأولى التي يقفز إلى ذهني خلال فترة اختفائي؛ مصطلحُ “أسيرا”. وأن توصيفي هو توصيف الأسير، الذي يحتاج إلى الإطعام، لكنه يحتاج قبل ذلك وفوق ذلك؛ إلى الأمان، ما لم يتم ذكره في تكملة الآية هو (إنما نطعمكم لوجه الله، لا نريد منكم جزاءا ولا شكورا). كان ذلك الشخص الذي لم ألتقِ به طيلة حياتي؛ ينطلق من الآية التالية، من (وجه الله).
لا يستطيع أحد أن يتخيّل شعور أن تكون مطاردا، ومطلوبا لدى أجهزة متوحشة إلى أقسى الحدود، متشبعة بالكراهية، وتمارس السادية.
التوجس الدائم من الوقوع في أيدي هؤلاء ينخر في الجسد، ومن أعماقه. كل صوت في الخارج يكون بمثابة إنذار مزعج يجعلك تقفز لتتبيّن: أترى من الشياطين أتاك أم من بعض العابرين؟! ولا تستطيع أن تتعوده أن يكون صوت هرّة مرت من خلال زقاق، وهي تعبث في القمامة، حتى السقف يصبح شيئا من الترف، لا تمتلكه كل يوم، فمعظم الأيام يكون سقفك السماء، وبعضها سيارة قد توقّفت تواّ، وهي تبعث دفئا من حرارتها، أو صفيحة معدنية متسخة بالتراب تكون سقفا أو لحافا، أو مخبئا تلتجئ إليه
أنت في بلد يحكمه قانون القبيلة البعيد عن الإنسانية، لذلك يكون التشهي في الانتقام هو السمة البارزة لأوامر الاعتقال والتعذيب، وانعدام العدالة تجعلك تبحث عن التغيير والأمان من خارج النظام، وعندما يكون هدف النظام أن يلغيك، فبطبيعة الحال قد يتحول هدفك إلى إلغائه، عندها لا يمكنك التعامل مع كل ما ينتجه هذا النظام، وستبقى مترصّدا لكل تغوّلاته محاولا تدميرها، وطالما أنت في وسط هذه المعركة ولم تنته، فإنك كالقابض على الجمر، تحمل هم وطنك، وعائلتك، ومستقبل أبنائك، تحمل أمل جيرانك، وحلم الصغار، انت في داخلك تحمل آخر نظرات الشهداء على المغتسل، وكأنهم يقولون لك: “وصيتنا الطريق.. فواصلوه””. أنت لا تستطيع أن تتحرّر من كل ذلك إلا أن تنسلخ من ذاتك، ومن هويتك، وتصبح نسخة مشوّهة لما تريده منك القبيلة، أنْ تصبح جزءا من النظام الذي كنت تترصّده، وهذا محال لك، وأنت منْ عشت في وسط كل ذلك الظلم والغبن والتهميش والقهر.
هي ليست جريمة لرجال الله المطاردين أنهم مطاردون.
إنهم يحملون الأمانة التي عجز عن حملها غيرهم.
إنهم يحمون الأمل، ويتناسون الألم، غير نادمين على ما فعلوا. إلا أن أقسى ما يهدّهم ويهدّدهم أن يخسروا الحاضنة الشعبية لهم، وأن يرفضهم الناس، وأن يطردوهم، أو ألا تكون بين نسائنا “طوعة”. أن يُخبرهم الآخرون أن قلوبنا معكم، ولكن بيوتنا مغلقة أمامكم.
هل يعرف أحدكم كم هو قاسٍ على هؤلاء المطاردين أن يدقّوا بابا، لا ليطلبوا سقفا ينامون إليه، بل طعاما؟ هم ليسوا فقراء في معظمهم، بعضهم لديهم أهلٌ يستطيعون التكفّل بهم، لكنهم لا يستطيعون الذهاب إلى حيث أهلهم. وهل أقسى من أن تكون الإجابة رفضا لطعام! ما هو المطلوب من هؤلاء الشباب وهم يرون رفض البعض لهم حتى في الطعام؟!
أنا لا أقول إن الحاضنة الشعبية لهؤلاء قد انتهت، بالعكس، فلازلنا نسمع عن “طوعة” من هنا أو هناك، ولازلنا نرى أبوابا تُفتح لأولئك المطاردين لمأكل ومنام. ولكن نخشى من ردة فعل هؤلاء فيما لو تم رفضهم ولفظهم، فيما لو قيل لهم أنتم سبب ما نحن فيه، لو قيل لهم لو توقفتم عن مظاهراتكم لن تغرق قرانا بالمسيلات، أنْ يتحول اللوم والعتاب والهجوم من الدولة إلى هؤلاء الصابرين الحالمين، أنْ نقول لهم ليتكم ما قمتم بما قمتم به. ترجمتها في عقل هؤلاء المطاردين: “هل أخطأنا حين ضحينا لأجل أحلام هؤلاء”. وهنا بداية الردة!
ما رأيته في شباب ١٤ فبراير هو عين شامخة لا تنكسر، وكرامة يصعب دوسها، هم أعزّةٌ أمام النظام، فلا نجعلهم مكسورين أمامنا، هم فخرنا وعزنا، هم أملنا في التغيير القادم لا محالة، هم المستقبل، فلا نرمي مستقبلنا للمجهول كي لا نخسره.
واللهِ، لقد كان لديهم خيارات افضل، كان بإمكانهم أن يقولوا “ما الذي في الثورة الحمقاء قد أغراني”! لكنهم قالوا “إن الحياة لغايةٍ؛ أسمى من التصفيق للثيران”.