البحرين اليوم – (خاص)
حفل تاريخ البحرين الحديث بنماذج علمائية مجاهدة ضدّ حكم الاستبداد، بعض تلك القيادات العلمائية انتهى بها المطاف إلى الخلود في سجل الشهداء الصابرين، وبعضٌ منهم لا يزال يقضى سنوات عمره متنقلا بين السجون ووطأة التعذيب الممنهج. الصفة في خلاصتها؛ تعكس طبيعة الصراع بين قصر الصافرية والعمامة المجاهدة الصابرة، وهو صراع يتفرع أصلا من الصراع الكبير بين الشعب وعائلة آل خليفة الحاكمة. استطاع قصر الصافرية في لحظاتٍ معينة أن يجرّ بعضَ منتسبي العلوم الدينية إلى ساحة استعراضه، لكنه عجز تماماً عن استمالة الغالبية العظمى من العلماء، وواجه صلابةً لم يتعوّد على ملامستها وهو يخطط برامجه الإقصائية.
في تقرير “البندر” السري يضع النظامُ لنفسه مخططا شريرا يقوم على محاولة محو القيادة العلمائية المجاهدة من المشهد السياسي والاجتماعي، وخلق وجوهٍ موالية له بديلاً عن القيادات التي تقاومه و”تخرّب” عليه مشاريعه.
قبلها كان إيان هندرسون، الضابط البريطاني المعروف، قد استشعر خطورة القوة العلمائية وقدرتها على الإمساك بزمام المبادرة والمواجهة السياسية العنيدة، فاتّخذ سبيلَ التصفية الجسدية طريقا لحماية النظام الخليفي، ففُجعت الجماهير باستشهاد الشيخ جمال العصفور في 1980 تحت سياط التعذيب، وكان قتله عمدا رسالةً لتحجيم القوة الدينية الصاعدة وقتها. وكأي رسالة تصدر من الطاغوت فهي تحمل طابع التهديد والوعيد، وعلى منْ يقرأ الرسالة أن يحدّد نمط استجابته، إما قبولا أو رفضا. الجماهير والعلماء وقتها أجادوا قراءة الرسالة بوعي، فاستمرّ النضال ورُمِيَ التهديد تحت أقدام المتظاهرين وبيانات الاستنكار الرافضة لسياسات هندرسون والأجهزة الأمنية. استمر هندرسون في سلوكه، فعَمِد في 1986 لتصفية الشهيد الخالد السيد أحمد الغريفي في رسالةٍ أخرى أشد وضوحا، وهي أن النظام قادر على الاغتيال الخفي، وقادر على أن يصل إلى أي مناهض لسياسته. وظنّ هندرسون والعائلة الحاكمة أن رسالتهم سيكون لها كبير الأثر، ومرة أخرى يفشل النظام في محاصرة العمامة أو وأد نضالها.
النظام.. الأهبل
راهنَ النظام وقتها على وجود خط علمائي موازٍ وإنْ لم يكن مواليا، لكنه غير مناهض. وظنّ أن هذا الخط سيملك الساحة وتوجهاتها. ما لم يدركه النظام وجهاز أمن الدولة وقتها أن شرارة المقاومة لا يمكنها إلا أن تبقى مشتعلة متوقّدة، وأن يد الغدر ترتدُّ على صاحبها، فأفاق النظامُ على ما كان يخشاه ويخاف منه، فظهرت قياداتٌ علمائية صابرة ومجاهدة لا يمكن ترويضها أو حتى مغازلتها سياسيا.
كانت الانتفاضة الدستورية في 1994 تحمل في طياتها سجلاً كبيرا من مقاومة العمامة وصمودها وإخلاصها المنقطع النظير، وتبيّن للنظام أن أسلوب القتل والمباشرة في التنكيل غير مجدٍ في ثني العمامة عن نضالها وحمايتها للشعب والمجاهرة بمطالبه.
اقتضى الحال مع مجيء حمد عيسى لسدة الحكم في 1999 أن يضيف لسجلاّت الفشل أسلوبا جديدا ظنّ أنه أسلوب فعال ومجد، وهو أسلوبُ المهادنةِ والمخادعة مستعيناً في ذلك بخبراتٍ عالمية في الخداع والإنقلابات السياسية، ووظّف كافة قدراته المالية والإدارية في الحصول على إستراتيجيةٍ محكمة للنيل من العمامة والانتقام منها، وتحقيق حلم أجداده الذي لم يتحقق، وكأنه يريد أن يعيد محفل الطاغية يزيد عندما قتل الإمام الحسين في كربلاء وأنشد شعره المشئوم “ليت أشياخي ببدر حضروا”.
في الواقع؛ فإنّ التاريخ يظهر أن الاستبداد والخداع رغم أثرهما المباشر لكنهما يمثلان نقطة ضعف الأنظمة المستبدة، وأن الذي يحدث دائما هو النهاية المأساوية للمستبد وانتصار الضحية، ولو بعد حين. فلا يمكن للطاغية أن ينزع علاقة الناس بقيادةٍ يرون فيها أملهم وخلاصهم، ولا يمكن للطاغية أن يُجبر الناس على التخلي عن مناصرة منْ يرون فيه مثالاً للصمود والمقاومة، ومهما فعل الطاغية من فرض الإكراه والسجن أو الحصار والإقامة الجبرية أو النفي للقيادات العلمائية فلن يرى سوى السراب.
سيكون النظام مخطئاً في تقديراته إنْ هو راهن على الاستثمار في مواطن الخلاف في الرأي والتقدير بين العلماء، بل سيكون “أهْبلا” كعادته، إنْ هو حاول الظهور بمظهر المحب والراعي لقيادات علمائية صابرة ومجاهدة، وهذا ما ظهر في سعى حمد عيسى لأنْ يظهر بمظهر الحمل الوديع وأنْ يأمر بإصدار جواز صالح لمدة سنة لآية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم، أو أن يتكفّل بمصاريف علاجه في الخارج. اعتقد حمد عيسى أن العالم ربما نسي أن الشيخ عيسى قاسم هو ضحية حصار قمعي فُرض عليه وعلى كل أبناء الشعب انطلاقا من عقلية انتقامية همجية.
لقد خسر النظام معركته ضد العمامة الصابرة، وبات عليه الاعتراف بالهزيمة، حتى وإنْ غلّفها بغلاف المنتصر.