الشهيد سامي مشيمع.. حكاية لن تنتهي
البحرين اليوم – (خاص)
بقلم عبد الغني الخنجر
الناطق باسم حركة الحريات والديمقراطية (حق)
ماذا فعلتم بسامي؟!
سامي ابتسامتك لا تفارقني..
وطيفك يراودوني في كل حين..
ليتها لم تكن ذكرى بيننا..
ليتني لم ألتقيك في أقبية السجون..
ليتني لم أعلم كيف عذّبوك..
ليتني لم أحضنك على منصة دوار اللؤلؤة..
ليت عيني لم تُحدِّث عينيك..
في يوم من الأيام قصصت حكاية من نوع آخر، إنها حكاية المعذب الشهيد السعيد سامي مشيمع. حكاية كانت قصيرة، يومها لم أكن قادراً على أن أرخي العنان لقلمي ليهيم مسترسلا فيخطّ كل الحكاية، ليكتب كل ما حدث لجسدك النحيل. كنت أظن أن حكايتك تنتهي عند تعذيبك، وسجنك، وإذا بها حكاية لا تنتهي.
بعد اليوم، يا سامي حكايتك كلها يتلوها جسدك المضمخ بالدماء، وتحكيها الرصاصات التي طُبعت بصماتها مع رائحة البارود والنار على صدرك، واخترقت دون رحمة قلبك النابض بالصمود والحب. لكن دعني أكمل بعض حكايتك التي بدأتها عندما عذبوك في أقبية سجونهم لينتزعوا منك اعترافاتٍ صوروها لتبقى تدين جرائمهم، وتدلل على حجم ما فعلوه بك من عذاب.
في يوم من أيام الوجع المر (العام ٢٠١٠م) في سجن جهاز الأمن الوطني، قابلته صدفة، يومها كنت لا أعرف منْ يكون. قابلني بابتسامته وطيبته المتدفقة من بين نظراته وبريق عينيه، رغم أنه كان يرزح في زنزانة قريبة من زنزانتنا إلا أن الإجراءات الشديدة جدا في عزلنا عن كل سجين، وفصلنا عن بعضنا البعض وبشكل قاس جدا؛ كان يحول بين أي لقاء مع البشر، ما عدا الجلادين. إلا أن يد الأقدار شاءت أن نلتقي، حيث كانت تُوكل لي – في كثير من الأحيان – مهمة تنظيف أروقة السجن ومرافقه العامة، وأحياناً، نشر ملابس السجناء الممزقة و الملطخة بدمهم بين عنبري السجن. وفي المقابل كان يُسمح لسامي بالخروج أيضاً بين عنبري السجن، عنبر (9) و عنبر ( 10) التابعين لجهاز الأمن الوطني في سجن الحوض الجاف. كان الشهيد سامي مشيمع يقوم بتنظيف بعض الحشائش المزروعة بين العنبرين.
كان لقائي به حميمياً رغم عدم معرفتنا لبعضنا لبعض، ولكننا تشاركنا في مشاعر غامرة، ورغبةٍ عارمة في الحديث. يومها كان قد مضى على سجننا الإنفرادي قرابة الثلاثة أشهر. ثلاثة أشهر من العزل التام عن أي إنسان، حتى الجلادين كنا لا نراهم، وإنما نسمع فقط صوتهم، لأنك غالباً ما تكون معصوب العينين. وهذا النوع من التعذيب النفسي هو الأسوأ على الإطلاق، ويُسمى “التعذيب الأبيض”، حيث العزل التام يترك أثرا في نفسية السجين وينخر في معنوياته.
لحظة اللقاء كدت اصطدم بسامي وكاد هو أيضاً. فتلاقت عيناي بعينيه عن قرب شديد جداً، تلك اللحظة اليوم لا تريد مفارقتي، وكأنه لم يُعْدَم، ولم يفارق هذه الحياة. تدفقت حرارة كبيرة وارتفع كلام كثير من عينيه.. لم أجد له تفسيراً حتى اليوم.
سامي مشيمع هو ضحية تعذيب بشع تفنّن في تعذيبه عناصر جهاز الأمن الوطني بقيادة الجلاد بدر إبراهيم الغيث. لم يرحموه! فقد تعرض لصنوف من التعذيب والصعق بالكهرباء في جميع أجزاء جسمه، وخصوصاً المناطق الحساسة منها. لقد كانوا – ولعدة شهور بعد التعذيب – يحاولون إزالة آثار التعذيب عبر استعمال أدوية خاصة بمحو آثار الحروق التي يتركها على الجسد جهاز الصعق بالكهرباء، والمستورد بالمناسبة من دول الغرب.
ورغم أن كل حكايتي كانت قبل اندلاع ثورة الرابع عشر من فبراير (٢٠١١م) إلا أنهم أجبروه على تصوير اعترافاته التي انتزعت تحت التعذيب ليتم استخدامها فيما بعد على أنها اعترافات أُخذت لأحد “المخربين” الذين كانوا “يحتلون” دوار اللؤلؤة، حسب تعبيرهم. وبالفعل؛ بُثت اعترافات سامي على شاشة التلفاز في ذلك الوقت!
كذلك كان لقاؤنا الأول بعد السجن صدفةً، وبنفس القدر من الدهشة في لقائنا الأول. التقينا على منصة دوار اللؤلؤة وبذات النظرات الحنونة والطيبة من سامي؛ تلاقت مع عيني، ولكن الفرق أننا استطعنا أن نعانق بعضنا لمدة طويلة جداً.
أعْدِم الشهيد سامي مشيمع ظلماً وعدوناً، وارتفعت روحه إلى ربّ السماء، وارتفعت كل ظلامات تعذيبه لتشكو الجلادين لخالقه العزيز الجبار، وليبقَ دمه يلاحق القتلة والجلادين، وتبقى حكايته خالدة. أما نظراته فهي لا تزال أيضا باقية، ولا تريد مفارقتي.
كنت يومها أعجب من هؤلاء الشباب، أمثال الشهيد سامي مشيمع. تستولي عليّ الدهشة وأنا أرى هذه البصيرة التي تسكن قلوبَهم، وهذا الإصرار الذي يعيش داخلهم لمواصلة الصمود. اليوم أشاهد موقفه في فيلم قصير وهو يرد على أسئلة الأستاذ عبد الهادي الخواجة: “التعذيب اللّي صادك ما نجّفك” (التعذيب الذي تعرضت له ألن يوقفك عن مواصلة دربك). وهو يرد بقول بسيط وحاسم :”أبداً للموت”. كان جوابا من إنسان تعرض لقسوة لا حدود لها من التعذيب.
كل الحكاية تبدأ ولا تنتهي أبداً. فحكاية سامي لا نهاية لها، ولن تنتهي، ستبقى خالدة بخلوده وستبقى حية ببقائه حياً. حكايته التي رسمت بعض ملامحها أمُّه الصابرة التي وقفت على جسده المغمور بالدم، وشاهدت قلبه الممزق بأربع رصاصات غادرة، وقالت: “ما رأيتُ إلا جميلا”.
سامي.. حكايتُك لن تنتهي.. ولا تنتهي.. وجلادك لن يهنأ..