بين الإفراد والتفريط.. الشهيد روح الوطن الخالدة
البحرين اليوم – (خاص)
نصّ كلمة أُلقيت في حفل شهداء بلدة الدراز،
في الحسينية البحرانية بمدينة قم الإيرانيّة، يوم الجمعة 11 مارس 2016م.
الشهادة القيمة الكبرى:
الشهادة عنوان كبير لقيمة كبرى، هي نعمة لا يُلقاها ألا ذو حظ عظيم، فالشهداء أحياء عند ربهم يرزقون.
الشهداء خلّدهم الباري جلّ وعلا لأنهم آثروا أن يقدموا أرواحهم في سبيل الله، وضحوا بكل شي. وهل هناك ما هو أغلى من النفس؟!
الشهادة – هذه القيمة الكبرى تزدهر حيث الجهاد، الذي هو عز للدين وعز للحق وللمؤمنين الأخيار، وحيثما كان هناك جهاد مكتمل الأركان؛ كانت الشهادة الخالصة حاضرة، وكان الشهيد حاضراً، يصنع بدمه وروحه ملاحم البطولة، يَقتلُ ويُقتلُ في سبيل الله.
الشهيد استمد شرفه وعلو شأنه من الشهادة، زانته ووفّرت له الحياة الأبدية مع الصديقين والشهداء، لكن كيف يوفّق الشهيد للشهادة، وهل كلّ مجاهد يحظى بوسام الشهادة؟ كلا! فالشهيد يختاره الله، ويمنحه هبة الشهادة. فكم من مؤمنٍ قضى سنيي عمره في الجهاد في ساحات وميادين مواجهة الباطل الجلي، حيث يتخندق الباطل والكفر، لكنه بعد ذلك يقضي نحبه على فراشه، ولا ينال الشهادة، إلا أنه عندما يجاهد بصدق ويُخلص النية لله في طلب الشهادة؛ فإنه ينال مرتبة الشهداء، وإن مات على فراش المرض.
الشهادة الهدف السامي:
قد تُقتل في سوح النزال، وتحت راية الحق، لكنك لست شهيداً، وذلك لارتباط الشهادة بالهدف السامي الذي تقدّم نفسك في سبيله. وأسمى الأهداف هو موتٌ في سبيل الله ودفاعاً عن دين الله، وبعدها ثمة أهداف سامية أخرى تنال منها شرف الشهادة لأنها ارتبطت برضى الله، كالدفاع عن الوطن والعقيدة والعِرض والحق.
وقد تقف في وجه سلطان جائر فتنال من بطشه الويلات وتمضي مظلوماً معذباً في سجن طاغية هنا أو هناك، فتنال شرف الشهادة أو على أقل تقدير تنال ثواب الشهيد المظلوم، لكنك لابد أن تعلم أن نيتك الخالصة بوابة نحو الشهادة الحقة، وليس دمُك المراق، فقد يراق دمُ إنسان وهو في أوج المعركة مع الباطل، ويغتسل بدمهِ، لكنه ليس شهيداً، حيث إنه ذهب للمعركة طلباً للسمعةٍ أو لجاهٍ أو لأي هدف دنيويٍ آخر ليس مرتبطاً برضى الله وليس مرتبطاً بالجهاد، فحذاري من خوض غمار اللهبات دون أن تُحقق النية الصادقة المنقطعة للحق، فإنك بذلك تخسرُ الدنيا والآخرة.
الشهيد روحُ الوطن الخالدة:
أطوف بذاكرتي البعيدة مع بعض الشهداء في منطقة الدراز، وتحديداً حيث جسد الشهيد عبد الحميد قاسم ممزّق بمباضع الجلادين، هذا الشهيد انطبعت صور جسده النحيل في ذاكرتي، وشكّل لي دافعاً لمواصلة المطالبة والإستعداد لتقديم أي تضحيات. وهل هناك مشهد أكثر ألماً من جسد ممزق لفتى لم يتجاوز العشرين؟!
منذ مقتله في التسعينات وأنا أذكر قصته. تقول القصة – ولعها لسيت دقيقة تماماً – أن قوات مرتزقة النظام الخليفي في ذلك اليوم دخلوا مدرسة الدراز، وهاجموا الطلبة، وقد وقف عبد الحميد قاسم بشجاعة وبطولة في وجههم، لكنهم تكاثروا عليه ومزقوا جسده. كانت هناك ضربات غائرة في الرأس، وقُطعت عدد من أصابع يده، وبقى الشهيد عبد الحميد قاسم يلاحق الجلاد.
الشهيد فاضل العبيدي، اتسم بالشجاعة والإقدام والإستعداد لمواصلة درب النضال حتى انتزاع حقوق شعبنا المظلوم.
كان شاباً في مقتبل العمر. تقول المعلومات عنه أنه كان مميزاً في مشاركته في المسيرات السلمية، لا يبارح الساحات حتى أُصيب بطلق ناري في الرأس، وبقي في المستشفى فاقداً للوعي حتى زُفّ نبأ استشهاده.
إن الدماء الزكية التي أُريقت تستصرخنا جميعاً للسعي للقصاص من القتلة، ولا يمكن أن يتوقف القاتل الظالم عن القتل دون أن يكون هناك قصاص عادل يحقق العدالة، ولا يمكن أن تكون هناك عدالة دون أن يكون هناك نظام سياسي عادل. ولذلك، لابد للنضال أن يستمر حتى لا تذهب دماء الشهداء هدراً، وحتى لا يعاود القتلة جرائمهم، ويستمروا في القتل والتعذيب والإرهاب.
الشهادة بين الإفراط والتفريط:
الشهادة ليست شعاراً نجتره وقتما نشاء، وليست رافعة شخصية نحركها وندغدغ بها عواطف الشباب. بل هي مسؤولية، تحمل عدة أبعاد، ولطريقها عدة مقومات لابد من أن تتوفر.
إنّ السطحية في طرحها، وخلط الغث والسمين؛ هو اشتباه بيّن ومقتلة لهذه القيمة الكبرى، وللحديث عنها لابد أن نعي شرطها وشروطها، فنؤصل بعمق، ناظرين لله سبحانه وتعالى.
و إذا توفرت تلك الحدود الواضحة؛ فإننا بدعوتنا لنهج الشهادة وتعبئتنا للشباب اليافع نفعل خيراً، ودون ذلك هو خوضٌ في دماء لا طاقة لنا بتحمل مسؤوليتها أمام الله سبحانه وتعالى.
إن الوعي بالشهادة والرغبة الحقة فيها يستدعي منا أن نتفقه فيها، إذا كنا مخلصين، وإذا وفعلاً نريد لخط الشهادة أن ينمو ويزهر، وأن نحقق تلك القمية الكبرى التي تحدثنا عنها؛ فعلينا بالسعي لها من أبوابها، ذلك السعي ليس صعباً، وإمكانية توفير المناخ الأخلاقي والديني الذي يمنحنا شرف أن نصبح شهداء ليس بعيداً.
ولذلك، فإن النظر للشهادة على أنها مفردة سياسية بحتة يمكن استخدامها، كأي مفردة سياسية أخرى، هو – واقعاً – أمر في غاية الحساسية، فلا يمكن فصل مفردة الشهادة و الشهيد عن عمقهما الديني المتجذر، والذي لا تجده إلا في الإسلام المحمدي الأصيل.
الشهادة من جانب آخر قد تعاني من التعطيل تحت مبررات غير واقعية تقابل الإفراط وتتسبب في التفريط في هذه القيمة الكبرى، التي من خلالها يمكن لأي أمة أن تغير واقعها من المظلم الحالك المسكون بالظلم والقهر إلى المشرق المنير، فسنة الله في الحياة أن يقدم المصلحون التضحيات، وأن تلك التضحيات تغرق الطغاة مع لحاظ أن يكون هناك تشخيصاً موضوعياً لتقديم تلك التضحيات.
كثيراً ما يُنقل أن السيد الإمام الخميني (قد) – والشيء بالشيء يذكر – بأنه طولب بتحمل مسؤولية الدماء التي ستسقط في حال واجه الشاه المقبور، وقد كان رد الإمام بأنه “نعم أتحمل ذلك”.
عندما تتوافر الأسباب والمبررات والضوابط الشرعية للحركة التي تعطي الأمة العزة والكرامة، فلا يمكن قبول التأخر في التحرك، لأن ذلك يفقد الأمة فرص عزتها وكرامتها، ويُمكّن الأعداء من القضاء على الأمة، ولنا في الوضع الأقليمي شواهد عديدة حيث يقف المؤمنون في سوح الجهاد والمواجة في سوريا والعراق ولبنان، ويقدمون الشهداء والجرحى حتى النصر المؤزر.