السعودية تنوء بتركة ثقيلة برحيل عبد الله
برحيل الملك السعودي، عبد الله بن عبد العزيز، اقترب عهد ابناء الملك المؤسس من الانتهاء واحتدم النقاش ليس حول عهد احفاده بل حول مستقبل المملكة التي مضى على انشائها ثلاثة وثمانون عاما. ومهما قيل عن المملكة العربية السعودية، فانها بدون شكل تحتل موقعا متقدما في التوازن السياسي بمنطقة هي الاكثر اضطرابا في العالم. فهي حاضنة الحرمين الشريفين، واليها يتوجه ملايين المسلمين سنويا لاداء فريضة الحج، ومنها انتشر نور الاسلام، وهي القوة الكبرى بمجلس التعاون الخليجي، والمنتج المرجح بمنظمة الاقطار المصدرة للنفط (اوبك) واكثر دولها انتاجا. وفي العقدين الاخيرين توجهت نحوها انظار العالم بعد تصاعد ظاهرة العنف الذي ينسب نفسه للاسلام، نظرا لتشابه العقيدة الجهادية التي نشأت بعد انتهاء الاحتلال السوفياتي لافغانستان مع المدرسة الفقهية التي تحالفت معها العائلة السعودية منذ اكثر من مائتي عام. يضاف الى ذلك ايضا ان السعودية احتلت موقع الصدارة في العالم العربي منذ رحيل الرئيس المصري جمال عبد الناصر في 1970 والطفرة النفطية بعد حرب 1973، وتراجع الدول العربية الكبيرة مثل العراق وسوريا والجزائر نتيجة اوضاعها الداخلية. قبل رحيل الملك السابق، فهد بن عبد العزيز، روج الغربيون مقولة ان الملك عبد الله شخصية اصلاحية، وانه سيقود مشروع تطوير نظام الحكم في الجزيرة العربية وسيكبح النزعات الرافضة لذلك سواء بين الامراء ام علماء الدين الملتزمين بالمدرسة الفقهية للشيخ محمد بن عبد الوهاب، الذي تحالف مع جدهم الاكبر في القرن الثامن عشر. وقد يتوقف البعض هذه المرة لاعادة النظر في عهد الملك الراحل الذي استمر عشرة اعوام لفحص مدى تحقق ما روج الغربيون له من مشاريع اصلاحية على يديه. وعلى الصعيد العربي يمكن القول ان الملك السعودي كان من اكثر حكام الجزيرة العربية اثارة للجدل. ربما يعود ذلك لخروج المملكة في عهده على ما كان معروفا عنها من اعتماد شبه مطلق على “الدبلوماسية الصامتة” و “العمل في الخفاء” و “ممارسة القيادة عن طريق النفوذ المالي والديني غير المعلن”. ويمكن القول ان الممارسة العلنية لتلك السياسة وضعت السعودية على رأس الدول العربية وجعلها اكثر الدول تأثيرا في تحديد وجهة العالم العربي. وسيحاول الباحثون في الملف السعودي استشراف نمط تلك السياسة في عهد الملك الجديد، سلمان بن عبد العزيز، الذي يتوقع ان يكون آخر الملوك من ابناء عبد العزيز، وان يبدا في عهده الجدل حول التحول للجيل الثالث: أين سيبدأ وكيف سيتم تداول المنصب الملكي في ما بين افراده. المؤشرات الاولية لسياسات سلمان تكشف نزعته لاعادة السلطة بشكل كامل للسديريين بلا هوادة.
كيف ستقرأ الشعوب العربية عهد الملك عبد الله بن عبد العزيز؟ اتجاهات عديدة ستظهر خلال القراءات التي ستتشعب كثيرا، ولكنها ستؤكد امرا واحدا: ان عهده كان الاكثر إثارة للجدل منذ عقود، والأقل إصلاحا على الصعيد الداخلي. صحيح ان السعودية خاضت حربا ضد النفوذ المصري في اليمن في مطلع الستينات من القرن الماضي، وذلك في ذروة الصراع بين مشروعين: قومية عربية ثورية تقودها مصر وإسلام محافظ تقوده السعودية. وصحيح ايضا ان السعودية في العقد اللاحق وقفت مع مصر في حرب اكتوبر 1973 وحاولت الضغط على الغرب من خلال التهديد باستخدام النفط سلاحا ، وذلك للمرة الاولى، الامر الذي أحدث قفزة كبيرة في اسعاره. والصحيح ايضا ان اغتيال الملك فيصل في 1975 على يدي احد ابناء اخوته، أدخل المملكة عهدا آخر تميز بالقمع الداخلي من جهة والاستنفار لمواجهة اية محاولة لاحداث تغيير في التوازن الذي حكم المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ولذلك كانت السعودية من بين اكثر المعارضين للتغيير في النظام السياسي العربي، خصوصا لديها. فما ان حدثت الثورة الاسلامية في ايران حتى شعر حكام الرياض بخطر التغيير، واصبح الصراع محتدما بين إسلام ثوري و عروبة محافظة. واستعدت الرياض لمواجهة ذلك الاسلام الثورية على صعدان شتى. فبالاضافة لتوقيع اتفاقات الدفاع مع الولايات المتحدة، كان للسعودية دور بارز في تأسيس مجلس التعاون الخليجي في 1981 كمنظومة امنية لدرء مخاطر التغيير ومواجهة التهديدات الشعبية المتوقع حدوثها من الداخل، خصوصا بعد انتفاضة جهيمان العتيبي التي لم تنته الا بعد مقتل المئات من انصاره في اروقة الكعبة. وبعد اكثر من ثلاثة عقود، اصبحت الرياض تتعاطى مع المجلس وكأنه احدى وزارات الدولة، وسعت للتحكم فيه باساليب ازعجت بعض الدول الاعضاء. وتصاعدت هذه الظاهرة حتى بلغت اوجها في عهد الملك عبد الله، وكاد المجلس يتصدع تماما في الشهور الاخيرة بسبب اصرار الرياض على توحيد السياسات الخارجية لدوله لتتواءم مع سياساتها. ويمكن القول ان مجلس التعاون في عهد الملك عبد الله الذي استمر قرابة السنوات العشر شهد اكثر فتراته تصدعا. وقد دفع هذا الوضع بعض دوله للتفكير الجاد في الانفصال. ولولا تراجع الملك عبد الله في شهر نوفمبر الماضي عن ضغوطه على قطر لما انعقدت قمة الدوحة ولكان المجلس اكثر تصدعا. كما ان سلطنة عمان، هي الاخرى، عبرت مرارا عن انزعاجها ازاء السياسات السعودية. ولم تخف مسقط مؤخرا غضبها من السياسة النفطية السعودية التي ادت الى اغراق السوق بالنفط فانهارت اسعاره الى ما دون الخمسين دولارا للبرميل. وليس مستبعدا ان يتحول النفط الى قضية مفاصلة ليس داخل مجلس التعاون فحسب بل حتى مع الدول العربية الاخرى مثل الجزائر والعراق اللتين تعانيان كثيرا من انخفاض العائدات النفطية.
الغربيون تشبثوا باضفاء سمة الاصلاح على شخصية الملك عبد الله عندما كان اخوه فهد بن عبد العزيز ملكا اتسم عهده بالصرامة والقسوة مع معارضيه. وحتى بعد ان ادخل، للمرة الاولى في تاريخ الحكم السعودي، ما اطلق عليه “نظام الحكم” وأسس مجلس الشورى والمجالس البلدية، استمر الامل بان تشهد الجزيرة العربية في عهد عبد الله انفتاحا سياسيا مختلفا. ولكن شيئا من ذلك لم يحدث، بل استمر نمط الحكم السابق ولم يتم تطوير مبادرات الملك فهد ابدا. وعلى العكس من ذلك تعج السجون السعودية في الوقت الحاضر باكثر من عشرة آلاف سجين سياسي، يرزح الكثيرون منهم بدون محاكمة. وبالاضافة لذلك شهدت الشهور الاخيرة اجراءات انتقدتها المنظمات الحقوقية الدولية ومنها سجن الناشط الحقوقي رائف بدوي والحكم بجلده الف سوط بسبب مطالبته بالاصلاح السياسي. كما ان مسألة اقتياد المرأة للسيارة ما تزال تقلق نشطاء حقوق الانسان، وكان القرار الرسمي قبل شهر واحد بإحالة الناشطتين السعوديتين لجين الهذلول وميساء العمودي إلى المحكمة الجزائية المتخصصة في قضايا الإرهاب بسبب اصرارهما على اقتياد السيارات، قد اثار موجة من الشجب داخل المملكة وخارجها. كما ان اصدار حكم الاعدام بحق الشيخ نمر النمر بسبب تعبيره السلمي عن رأيه هو الآخر مؤشر لرفض تطوير نظام الحكم في كبرى الدول الخليجية، ومصدر احباط لمن راهن على الملك الراحل لاطلاق مشروع اصلاح سياسي داخلي.
وهناك قضايا اقليمية عديدة تكرس الا نطباع بعدم قدرة الحكم السعودي على مواكبة تطورات المنطقة او تطلعات ابنائها. وفي السنوات الاخمس الاخيرة تم الكشف عن تواصل سياسي امني بين الرياض وتل أبيب، في الوقت الذي واصلت السعودية فيه سياستها التي انتهجتها خلال العدوان الاسرائيلي على لبنان في 2006 وعلى غزة في 2008 و 2009 و 2014. تلك السياسة كانت واضحة ولم يسع المسؤولون السعودية لاخفائها، وتميزت بالعداء تجاه حركات المقاومة، ممثلة بحزب الله اللبناني وحركتي حماس والجهاد الاسلامي الفلسطينيتين. تزامنت تلك المواقف مع إصرار السعودية على التصدي لثورات الربيع العربي منذ اليوم الاول لانطلاقها في مثل هذه الايام قبل اربعة اعوام. فقد رفضت التخلي الامريكي عن الرئيس المصري السابق، حسني مبارك، وبعثت قواتها العسكرية بمعية قوات اماراتية لضرب ثورة شعب البحرين في منتصف مارس 2011، وما تزال هناك. ورفضت اسقاط الرئيس التونسي السابق، زين العابدين بن علي، ثم استقبلته على اراضيها. ثم تدخلت مع الامارات للتأثير على الانتخابات البرلمانية والرئاسية التونسية لضمان خروج الاسلاميين ممثلين بحركة النهضة من اللعبة السياسية. وسبق ذلك دعم السعودية والامارات للانقلاب العسكري الذي قاده عبد الفتاح السياسي ضد حكم الاخوان ا لمسلمين. ولم يكتف باسقاط الرئيس المنتخب، محمد مرسي، بل اودعه السجن وحكم على قادة الاخوان ومئات آخرين بالاعدام. برغم ذلك يمكن القول ان تلك السياسة كانت متوقعة. وما لم يكن متوقعا هو الموقف الغربي، خصوصا الامريكي والبريطاني، مما حدث، وكيف ان هذه الدول التي طالما روجت مقولتي الديمقراطية وحقوق الانسان، انضمت الى قوى الثورة المضادة وتركت المناضلين في العواصم العربية عرضة للقتل والسجن والتعذيب و الابعاد.
لم يكن عهد الملك عبد الله بن عبد العزيز مصداقا لما روجه الغربيون قبل استلامه المنصب، بل اصبح العالم العربي مثقلا بتركة مزعجة ناجمة في بعض جوانبها، عن السياسة السعودية التي رفضت التغيير السياسي في العالم العربي، وعارضت مشاريع التحرير والتصدي للاحتلال الاسرائيلي، واستخدمت النفط سلاحا (ليس كما استخدمه الملك فيصل قبل اربعين عاما) بل ضد الدول التي تختلف مع الرياض سياسيا مثل روسيا وايران وا لعراق، مع العلم بان كافة الدول المصدرة للنفط اصبحت مهددة باضطرابات سياسية وامنية واقتصادية نتيجة ذلك. ولعل التركة الكبرى الاكثر اجهادا واضعافا للامة تتمثل بصعود ظاهرتي التطرف والارهاب غير المسبوقتين في التاريخ المعاصر. ولا يستطيع احد انكار دور الرياض في تفريخ هاتين الظاهرتين من خلال دبلوماسية “توازن الرعب” منذ نهاية الحرب الافغانية. ولذلك فمن الاجدى عدم التعويل على حدوث تغيير جوهري في السياسات السعودية بعد رحيل الملك عبد الله واستلام اخيه، سلمان، مقاليد الحكم، فالمشكلة ليست في الاشخاص بل في النظام نفسه.