المنامة – البحرين اليوم
ربّما يكون الحاج عبد الله الغسرة مفتاحاً لاكتشافِ وجْع “غير عادي” لم يزل يهزّ هذه الأرض، ويفرشُ في السماء بذوراً لا يراها القابعون في الظلام.
بلدة بني جمرة كانت قبل أيّام على موعدٍ آخر مع هجماتٍ مسعورة لقوات آل خليفة. العشراتُ من أبنائها كانوا هدفاً للقوات التي اختطفتهم في تزامنٍ ممنهج مع التهديدات التي أطلقها وزير الداخلية، راشد الخليفة. الوزير الذي كان يتحدث عن “حرب استباقية” ضد الأهالي والمعارضين، كان يرى أنّ الخطة يمكن أن تبدأ من بني جمرة، وباستهداف شبابها وأطفالها وتصويرهم في أحد مآتم البلدة، وفي سياق التحضير لمسرحية جديدة والإعلان عن خلية أخرى قد تكون مفتاحاً لضربات جديدة تستهدف المساجد والمآتم والمنابر الدينية، وهو الهدف الأصيل الذي كان يسعى له الخليفيون منذ زمنٍ طويل، بالتوازي مع المخطط الإستراتيجي الذي يعمل عنوان “إبادة” السكان الأصليين، دينيا وثقافياً وتاريخياً، وربما حتى على المستوى المادي والوجودي.
هذه الإبادة، ومشروعها الخليفيّ، يُحيل إلى الحاج المرحوم عبد الله الغسرة. الرّجل الذي يختصر حكاية النخلة البحرانية، وجداول مائها التي يريد آل خليفة قطْعها وتصحيرها.
البحرانيون الذين شيّعوا جثمان الحاج اليوم، كانوا يحملون معهم ما كان يحمله المرحوم من ألم الفراق، ومن سنين المعاناة، ومن الإرث الطويل من وجْع هذا النظام.
القوى والحركات والجمعيات السياسيّة رفعت التعازي إلى الحاج. ربّما لم يكن يعرف صورته الكثيرون، ولكن الجميع كان يعرف أنّ اسمه يقترن بأولاد وأحفاد تشرّبوا العزّة، وتحرّكت بين أيديهم شهامة الانتصار للمظلومين، فما اختاروا غير الشّعب ولاءاً، وما انحرفت أرجلهم عن خيار الميدان والانتماء إلى السّاحات.
على ظهر المرحوم الغسرة.. إرثٌ من ظلمٍ.. وميراث من كرامة. عند روضته يستذكر النّاس، مع قراءة سورة الرّحمة، أساطيرَ البطولة لأفذاذٍ تناسلوا من خاصرته. يلمع بينهم رضا الغسرة، الذي أضحى “ثيمة” تشع جمرةً، وذكاءاً، وفنّا متواصلاً في التحايل على القيْد والسّجان. أبناء الرّاحل وأحفاده في الغياهب: رضا، صادق وحسن، والحفيدان أحمد وعلي.. والعالقون في وجْع الغربة: ياسر، وأيمن.. تتقطّر عيونهم اليوم حزناً لا يعرف حرارته إلا الفاقدون، وتلك القلوب التي جرّبت فجيعة رحيل الأحبّة الكبار.
ولكن الحاج المرحوم عبد الله الغسرة.. وكما هم الأبناء والأحفاد، لم يُعرَف عنه انفطارٌ من انكسار، ولا حزن من هزيمة، ولا تفجّع من يأس. كان انفطاره، وحزنه، وتفجّعه مرسالٌ لأبنائه بأنْ اصبروا، ولا تغيّروا. أنْ اثبتوا ولا تنكّسوا رايةً أو تمزّقوا الإيمان الذي يسكن في قلوبكم ويرتفع مثل اللؤلؤة فوق رؤوسكم العصيّة على الركوع للقتلة والجلادين.
كان المرحوم يرى في اعتقال الأبناء وغربتهم “قربانا” يُتيح الانتساب إلى هذا الرّكب المبارك من عوائل الأسرى والمهجرين. ورغم آلام العمر المتقدّم، والحنين القاسي للأحبة الأبناء، إلا أن الحاج المرحوم كان يُصبّر نفسه بقصص البطولة التي يتفاخر بها أهل البحرين، ويوردون خلالها أسماء أبنائه الذين باتوا “تيجاناً للوطن”، وبات هو – قبل رحيله وبعده – جنسيّة هذا الوطن، وجواز العبور إليه. من الحاج عبد الله الغسرة.. ومن أبنائه الخمسة الذين سُلبوا جنسياتهم البحرانيّة؛ يأخذ الناسُ معنى الانتماء الذي لا يعرفه قراصنة الخليج وسُلاّب الحياة..