الانتخابات البحرينية في ظل إقليم مضطرب: الأسوأ لم يأت بعد
إذاً، تجرى الانتخابات البحرينية في ظل خلاف داخلي بيّن، لكن أيضا في ظل إقليم يسوده الاضطراب والفوضى والعنف وعدم اليقين.
ويمكن للمراقب القول إن الوضع غير المستقر ذاك لم يمنع السلطات المستبدة، أو المختلف بشأنها، في غير بلد عربي (مصر، الأردن، ليبيا، اليمن، الكويت، العراق، سوريا، الجزائر..) من المضي في إجراء انتخابات لم تتمكن من إخراج تلك الدول من الأزمات التي تعيشها. وفي حالات عدّة أدى إجراء الانتخابات دون توافق سياسي إلى تعقيد الأوضاع السياسية والأمنية على نحو يجعل الفترة التي سبقت الانتخابات فردوسا.
“نجاح” الانتخابات الليبية، التي نظمت في يوليو الماضي، كان مقدمة لزيادة وتيرة العنف والانقسام الوطني، ونشوء برلَمانَين أحدهما في طبرق والآخر في طرابلس.
وفي العراق، التبشر بـ “نجاح” الانتخابات، التي أجريت في ابريل الماضي، لَم ولا يفترض أن تعني أن الجيش والأجهزة الأمنية والمؤسسات الدستورية والنخبة السياسية لم تكن غارقة في عالم آخر، أفضى أن تحتل داعش ثلث أراضي العراق في ساعات.
وما سُمي “التوافق” على “انتخاب” عبدربه منصور هادي في اليمن، في فبراير 2012، كما اقترحت المبادرة الخليجية، ما منعت أبدا أن تسير البلد، المصنف كدولة فاشلة، خلاف بنود الاقتراحات الخليجية المدعومة دوليا، وأن يطيح الحوثيون، من اراقة الدماء، بالعسكر وحزب الإصلاح والقبيلة المتغولة، والسعودية، والمبادرة الخليجية التي ولدت ميتة.
أمّا الانتخابات “الناجحة” في مصر، التي أوصلت المشير عبدالفتاح السيسي إلى القصر الجمهوري في يونيو الماضي، لا تعني إلاّ تعزيز القطيعة بين الفرق السياسية المتصارعة، والاختلاف حول الجيش بعد إن كان محل اتفاق وطني، وامتلاء السجون بالإخوان المسلمين وأولئك الحقوقيين الرافضين لتغوّل العسكر، واستمرار التدهور الاقتصادي والسياسي في بلد يشتكي قطاع واسع من مواطنيه من الفقر والأمية، والمضي في اتكاء القاهرة على وعود الرياض، الغارقة هي الأخرى في وحل إقليم يتراقص أطرافه خوفا وطمعا لتقلّص النفوذ السعودي في غير مكان.
لا أعرف جدوى إجراء انتخابات من هذا النوع، تشرّع أبواب سيناريوهات عدم الاستقرار على مصاريعها، فيما لم يثبت أبدا أن أيّا من السلط العربية قادرة على التعلم من تجارب مريرة حولها، وكأن النظام العربي برمته يقاتل مستميتا محاولا منع تغيير بدا للحظة قريب المنال.
في البحرين، الحال لا يختلف. ولا يوجد في الأفق ما يؤشر إلى أن السلطات الخليفية بصدد البحث عن صيغة سياسية تحقق بعض مطالب الجماهير التي ملأت الساحات منذ فبراير 2011، أو أن تعلن جدولة زمنية للإصلاحات، تُرضي الجمعيات المعارضة، وتستدرجها للمشاركة في الانتخابات، علّ ذلك يشتت جهود الأطراف المعارضة: السياسية و”الثورية”، في الداخل والخارج، والتي تبدو متوحدة، في مشهد لا يتكرر كثيرا، في الموقف السلبي من الانتخابات المرتقبة في 22 نوفمبر المقبل.
وبينما كانت “الوفاق”، كبرى جمعيات المعارضة، قد قاطعت الانتخابات النيابية، وشاركت في البلدية، في 2002، ثم شاركت في الاثنتين في 2006، و2010، فإن التقليص المستمر لصلاحيات المجالس البلدية، وابتلاع وزارة البلديات لصلاحياتها المحدودة أصلا، وإلغاء مجلس بلدي العاصمة، في الصيف الماضي، والذي كانت تسيطر عليه المعارضة منذ 2002، واستبداله بـ “أمانة العاصمة” المعيّنة، فضلا عن الرسم غير العادل للدوائر الانتخابية في ثوبها الجديد شكلا والقديم مضمونا، والتي أحبطت آمال المتفائلين في أن يقدم النظام جزرة للمعارضة إلى جانب الكومات المتراكمة من العُصي والعنف غير المسبوق، كل ذلك يدفع “الوفاق” والجمعيات المعارضة الأخرى إلى مقاطعة الانتخابات البلدية، إلى جانب الانتخابات النيابية.
صحيح إن الموقف الوفاقي قد لا يدفع المراقب، أو على الأقل لا يمنعه من التريث، قبل الجزم بأن تغيّرا جوهريّا قد حدث في نظرة الوفاق للسلطة الحاكمة وطبيعة الصراع المحتدم في البحرين، خصوصا إذا قورن ذلك بخطاب الداعين لتحول البحرين إلى النظام الجمهوري، بيد أن تغيّرا مهما يجدر ملاحظته، ويمكن قراءته بوضوح في خطاب الوفاق التغييري، والذي يبدو مدفوعا بالمتغيرات الداخلية الملهمة منذ فبراير 2011، وبالمتغيرات الإقليمية الكبرى، التي وإن استمرت ترسل إشارات متقلبة بين زرع الأمل بالإطاحة بالهياكل الدكتاتورية القائمة، وبين استمرار تغولّها، فإن الحصيلة الكلية لمجمل هذه الإشارات الصاخبة لا يمكن أن تخفي أن الإقليم الساخن والمشتعل يخبئ بين جنباته الكثير، قد يكون من بينها انهيارا أسرع مما نتوقع للنظام العربي البائس، وللامبراطورية السعودية المترنحة، وحينها يبدو تحقيق التغيير في البحرين تحصيل حاصل.
إن الانتخابات البحرينية، وهي تجري متحدية دما غزيرا تم سفكه في الجزيرة الصغيرة، تحمل في ثناياها كل خصال عدم الاستقرار. ولعل على الجميع الاستعداد إلى وَضْعٍ لا يمكن أن تهنأ فيه القلّة على حساب المجموع، وللبحرين عبرة في الجوار الحامي.