البحرين اليوم – (خاص)
تحدث الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو عن نظرية العقاب والسجن، وتوسَّع كثيرا في إستراتيجيات السلطة لمحو المعتقل السياسي، وتحويل جسده إلى “علامة جريمة جنائية” يكافحها المجتمع بدلا من كونه علامة تدل على التوق للحرية والانعتاق السياسي. الكثير من تلك الإستراتيجيات تعود إلى نهاية القرن التاسع عشر تحديدا، حيث كانت أوروبا تعيش تحت وهج الثورات السياسية والانتفاضات المتواصلة ضد الملكيات القمعية وسياساتها الظالمة في حق الناس آنذاك.
في وحدة السياق، لا يصعب تمثيل النظام في البحرين على أنه يماثل أنظمة الملكيات الأوروبية في القرن التاسع عشر، وقبل تحولها للديمقراطية. فالنظام السياسي في البحرين يعتمد إستراتيجية واضحة في حق معارضيه تقوم على إقصائهم من المجال السياسي والسعي لشيطنتهم إعلاميا والتشهير بهم كـ”إرهابيين” ودعاة عنف، وأنهم “الطابور الخامس” الذي يريد الخراب والدمار. في حين أن أقصى ما يطالب به أولئك المعارضون لنظام الحكم هو الوصول لبعض حقوقهم الطبيعية، والمنصوص عليها في كل مواثيق الأمم المتحدة، وأبسطها حق تقرير المصير، وحقهم في اختيار حكومتهم ونظامهم السياسي.
كل هذا يبدو واضحا في سياسة النظام الحاكم في البحرين باعتباره نظاما استبداديا مترهلا يحاول أن يغطي سوءاته بغطاء الإصلاح السياسي، وتوفير الحماية للناس. ولكن الذي لا يبدو للرأي العام عموما هو أن النظام يبطِّن إستراتيجيات أخرى ضمن إستراتيجيته الكبرى، ومن بينها ما يلي:
إستراتيجية الرهائن
وهي إستراتيجية تقوم على تحويل المعتقلين السياسيين إلى رهائن محتجزين لديه، يفاوض عليهم كلَّ الأطراف. ولكي يُظهر نفسه ضحية “التدخلات الخارجية”؛ يلجأ النظام إلى زيادة أعداد المعتقلين في تهم الخلايا السرية والعسكرية، ويتفنن في اختيار الأوقات والظروف السياسية الحرجة والملائمة لتقديهم إلى الرأي العام على أنهم “إرهابيون” ومنظَّمون من جهات خارجية. وفي الواقع؛ فإن النظام يفاوض بهم لاستحقاق الدعم الخارجي، أو من أجل تخفيف الضغوط المتتالية عليه.
مقتضى هذه الإستراتيجية أن يكون هناك أعداد كبيرة من المعتقلين يخضعون لمحاكم نظام متعجرف وملتزم بتطبيق سياسة الانتقام والتشفي، وهذا ما نراه في نوعية الأحكام القاسية التي تصدرها محاكم النظام على نحو مستمر ودون انقطاع.
إستراتيجية الاختطاف
والمقصود بها اختطاف المعتقلين السياسيين داخل السجن بهدف الحصول على تنازلات سياسية أو حقوقية تقدُّمها القوى السياسية المعارضة، وتتركز تلك التنازلات على قبول القوى السياسية والحقوقية بالأوضاع السيئة للسجون وعدم الحديث عنها. وتأخذ هذه الإستراتيجية صورا عديدة، منها فرض الحصار على المعتقلين، وحجبهم عن العالم الخارجي، وعن التواصل الجسدي مع أهاليهم، ومنها فرض إجراءات صارمة عليهم داخل السجن، مثل منعهم من الاتصال لمدد تصل إلى شهور طويلة، ومنها مصادرة حاجاتهم ومنعهم من الأشياء الضرورية لهم، كالأدوية، إضافة إلى حرمانهم من العلاج.
الهدف من سياسة الاختطاف داخل السجن هو السعي لأن “يتوحَّد” المعتقل مع الجلاد، ويراه المخلِّص الوحيد لمحنته، وبالتالي إعادة تشكيل وعيه السياسي ليكون طرفا ضد القوى السياسية المناهضة للنظام، أو على الأقل يحمِّلها آلام محنة اختطافه.
إستراتيجية الإغراق
وهيمن ضمن أهم وأشهر الإستراتيجيات التي تتبعها أجهزة القمع عموما، حيث يتم استهداف السجناء بصورة متوحشة وممنهجة بغرض إغراق المعتقلين نفسيا وعقليا، وتبدأ هذه الإستراتيجية بأول ملامسة جسدية للمعتقل لحظة اعتقاله أو التحقيق معه في مبنى التحقيقات أو أماكن التحقيق السرية الأخرى، حيث يتم حجبه عن العالم، ويُوصل جسد المعتقل بحزام الآلم والتعذيب المؤدي للموت. ومن ثم تتصاعد لحظات الإغراق في نظام المحاكم، وإصدار أحكام أسقاط الجنسية والمؤبد، ولا تنتهي رحلة الإغراق عند هذا الحد بل تواصل طريقة عملها داخل السجن كأداة رئيسية، حيث يتواصل العمل بهذه الإستراتيجية داخل السجون التي يديرها جلادون شرسون.
تمثل هذه الإستراتيجيات وغيرها صلب التعامل اليومي للمعتقلين في سجون النظام السياسي في البحرين، وهي أيضا تُشكل جانبا من جوانب الطبيعة الاستبدادية للنظام في الوقت الذي يناضل فيه المعتقلون بوسائل مختلفة من أجل مقاومة آثار تلك الاستهدافات وإجهاض الأهداف العميقة من ورائها.