البحرين اليوم – (خاص)
عندما ينفعل وزير خارجية النظام الخليفي، خالد أحمد، ويعربد على منصة توتير، ثم يصف المعتقلين الـ ٤ آلاف في سجون نظامه المترهِّل بأنهم مجرمون؛ فإن ذلك يدل على حجم الورطة التي تورط بها جهاز القمع، وأن المنهج الأمني في التعامل مع الأزمات السياسية غير مجد تماما. فالنظام – ومنذ أكثر من عقد من الزمن – ضاعف من ترسانته الحربية والعسكرية، وضاعف أيضا أجهزته الأمنية، صرفا وعددا، بغية القضاء على الثورة والحراك الشعبي المنطلق منذ ٢٠١١، وبهدف إرغام قوى المعارضة على الاستسلام والقبول بمخرجات النظام نفسه وبسقفه السياسي الذي يعتبره الحد الأعلى في تنازلات أي مرحلة تفاوضية.
تعقيد المشهد السياسي يطرح تساؤلا جديا حول إستراتيجية النظام الحاكم في البحرين تجاه استمرار سجن القيادات والرموز السياسية من جهة، والسعي المتكرر في إيقاع انتهاكات حقوقية تجاههم، من جهة أخرى. فهل أن تلك الانتهاكات المتكررة نتيجة للقمع الممنهج الذي تتشكل وتُبنى عليه الأجهزة الأمنية؟ أم أن تلك الانتهاكات تحدث وفقا لتوجيهات عليا تصدر من مراكز القرار القوية والرئيسية، وتحديدا من الديوان الملكي وقصر الصافرية؟
بداية، يجب التذكير أن حسابات النظام الخليفي كانت ولا تزال قائمة على أن إخلاء المشهد السياسي الخارجي من القيادات والرموز، وتصفية كل تركتها السياسية؛ من شأن ذلك أن يعفيه من المسؤولية السياسية والأخلاقية، يضاف إلى ذلك الحسابات الإقليمية واعتباراها سندا ثابتا في السياسات والمواقف والتحالفات، في حين أن هذه تعتبر قراءة خاطئة في فهم الاتجاهات السياسية ومسار صناعة الأحداث من جانب، وسيولة المواقف السياسية للدول الكبرى والفاعلة في الإقليم من جانب آخر.
وبالتالي، فإن أي اهتزاز في تلك الحسابات يستتبعه أثر وفعل غير متوقع وفقا لنظرية أثر الفراشة (the butterfly effect). فعندما تهتز بنية التحالفات الإقليمية – كما حدث في الأزمة الخليجية مع قطر – يؤدي ذلك لحدوث اضطراب في حسابات النظام، سواء كان المطلوب منه الرقص على إيقاع ضربات “الدف” الجديدة، أم تقليص الدعم السياسي الذي كان متوقعا. وبالمثل، فإن فشل الأجهزة الأمنية في مهمتها القذرة، وعدم قدرتها على إخماد القوة الشعبية؛ يرسل إشارات سلبية لقيادات النظام تُشعرهم بالفشل في كل جهودهم المبذولة في هذا الشأن. وفقا لذلك، فإن الانتهاكات المتكررة في سجن جو المركزي، وبالأخص استهداف الرموز والقيادات، هو نتيجة متوقعة للفشل في السياسات الأمنية، واختلال الوضع الإقليمي لغير صالح توقعات النظام من الجهة الأخرى. ومعنى ذلك على ارض الواقع؛ أنه كلما زاد الفشل والإخفاق لدى النظام؛ كلما عمد للتضييق على المعتقلين، أو ضاعف حملات القمع تجاه المواطنين.
ووفقا لهذا المعطى يمكن في مقام التحليل رصد أربعة مجموعات من الأسباب التي تقف خلف حملات الاستهداف الممنهج ضد الرموز وبقية المعتقلين وهي:
- أولا بنيوية الإقصاء والقمع
وفحوى مجموعة الأسباب هنا تقع تحت عنوان الطبيعة الانتقامية المغروسة في بنية النظام السياسي ممثلا في العائلة الحاكمة، وفي بنية الأجهزة الأمنية المكلفة بحماية مصالح العائلة الحاكمة. فالصراع بين القوى السياسية والشعبية وقوى النظام صراع متجذر، ولم يعد صراعا افقيا يمكن تسويته سريعا، أو صراعا سياسيا خالصا، بل تحول هذا الصراع بفعل تدابير النظام الفاشلة والقمعية؛ إلى صراع عمودي متجذر في الهويات المتصارعة، وبالتالي فإن السلوك القمعي والاستهداف الممنهج يتبع العقيدة الأمنية والصراعية التي تشكلت عليها أجهزة النظام منذ تأسيسها.
- ثانيا: الفشل في المهمة القذرة
فهناك فشل في إدارة الأزمة السياسية والأمنية، وكذلك هناك فشل في قدرة المخابرات على التنبؤ بمسار الأحداث، فالثورة منذ انطلاقها لم تتوقف، حتى وإن قلّ نشاطها بفعل تفريغ الساحة الميدانية من القيادات والنشطاء وملاحقة الشباب وتسخير القضاء في استصدار أحكام قاسية ومغلظة وصلت إلى سحب أكثر من ٤٠٠ جنسية وأحكام تصل مددها لأكثر من آلاف السنين. مثل هذا الفشل الذريع تنعكس نتائجه في حملات ممنهجة لمواصلة الانتقام والتشفي من القيادات والرموز، بغرض تحقيق توازن نفسي لدى أفراد وقيادات الأجهزة الأمنية وصناع القرار في النظام الخليفي.
- ثالثا: ارتدادات الإقليم
بحكم انخراط النظام في تحالفات إقليمية امنية وعسكرية “خائبة” وتعرُّضها للفشل المتواصل في تحقيق أهدافها، وبالأخص رهن السيادة الوطنية للهيمنة السعودية؛ فإن أي فشل أو إخفاق في أداء تلك التحالفات يتم تحويله إلى ردة فعل وبطش لقوى الداخل، التي عادة ما تحوص على إبداء التضامن مع الأطراف الأخرى، مثل حركة أنصار الله (الحوثيين) في اليمن، أو قوى الحشد الشعبي في العراق أو معارك حزب الله في منطقة الشام. والذي يحدث أن القوى السياسية السلمية في البحرين تُعدُّ الحلقة الأضعف بين حلقات المحاور المتصارعة، ولهذا يتم استهدافها بشكل متكرر وبالتوازي مع إخفاقات وفشل حلفاء النظام على أرض الواقع.
- رابعا: الرقص المرتزق
وهي مجموعة أسباب تتصل بالمجموعة السابقة لكنها أكثر خصوصية إذ تمثل هذه الأسباب الطبيعة الإرتزاقية التي يقوم بها النظام إرضاءاً وتلبية لمتطلبات حلفائه وترتيب قضاياهم، وبما يمتلك من قضايا. فعندما تتأزم علاقات السعودية أو دولة الإمارات مع إحدى الدول أو المجموعات؛ يندفع النظام في التطبيل لمواقف حلفائه ولو كذبا، كما فعل في “كشف” الاتصالات بين بعض قيادات جمعية “الوفاق” ومسؤولين قطريين على خلفية الأزمة القطرية السعودية الإماراتية. وكما يحدث غالبا في الأزمة السعودية الإيرانية، حيث يتبرع النظام في البحرين في “الكشف” عن العديد من الخلايا المزعومة التي تقول عنها إنها مرتبطة بإيران أو الحشد الشعبي أو حزب الله.
القاسم المشترك
مهما قيل عن “صوابية” مجموعة من تلك الأسباب وعدم كفاءة الأخرى؛ فإن القاسم المشترك بينها جمعيا أنها أسباب تتصل بالعملية التقديرية للمهمة، أي أنها مقدمات لاتخاذ قرار، وتقدير حجم وخطورة تلك المقدمات ليس من صلاحيات أي فرد أو مجموعة أفراد في الأجهزة الأمنية. فالمعروف عن الأجهزة الأمنية في البحرين أنها أجهزة “انضباطية وصارمة” في هرميتها بشكل عام، فهي لا تتحرك أو تمارس فعلها إلا عبر أوامر صريحة ومباشرة من القيادة الأعلى منها. وهذا يعني أن مهمة تقدير الموقف هي مهمة قيادية، وليست مهمة عملانية، وأن الذي يحدِّد مقدار الانتقام أو تغطية الفشل أو رفد الحلفاء أو تحديد المهمة الإرتزاقية هم القيادات العليا ممثلة في قيادات وزارة الدفاع والداخلية ومجلس الدفاع الأعلى، باعتبارها تمثل غرفة العمليات المسؤولة عن مجريات الأحداث على أرض الواقع، وتحديد هذه المنصات القيادية أشار إليه تقرير “بسيوني”، وأكد مثل هذه التركيبة الهرمية والمتسلسلة في إثبات الطابع الممنهج للانتهاكات الحقوقية والسياسية.
بالتأكيد، لا يمكن القول هنا أن كل القرارات المتصلة بانتهاكات السجون هي قرارات شخصية تصدر من قمة الهرم الأمني أو السياسي، فطبيعة العمل اليومي والعملي تقتضي من تلك القيادات وضع الخطوط العامة والإستراتيجيات الجاهزة للتطبيق، مع إطلاق الإشارة أو نقل الرسائل الخاصة.
وفي هذا السياق يمكن التأكيد على أربع مساحات أوجدتها القيادات الأمنية لتطبيق وتنفيذ استراتيجيات الانتقام وتصفية الحسابات وهي:
١- مساحة الصلاحيات المطلقة
فبمقتضى التتبع؛ كانت هناك صلاحيات شبه مطلقة لجهاز الأمن الوطني لتنفيذ كل مهامه القذرة، وقد تُرجمت هذه الصلاحيات في استعادة صلاحيات جهاز الأمن الوطني اليي سحبها منه تقرير “بسيوني” الشهير، كما تُرجمت في رفع الميزانية المرصودة للجهاز المذكور، وفتح الباب مشرعا لوزارة الداخلية في الاستفادة من ميزانية الدولة كما تشاء. وهنا يُشار أيضا إلى صدور الأوامر الملكية في تعيين رئيس جهاز الأمن الوطني وما يشير إليه من مغزى.
٢- الاستهداف الشخصي
في عُرف النظام؛ فإن الرموز والقيادات السياسية المعتقلة والمحتجزة في سجن جو يُعتبرون أعداء شخصيين لقيادات النظام، وأن الانتقام منهم بشكل دوري يشكل ترضية و”شفاء” لقلوب العائلة الحاكمة، وتظهر هذه الرسالة واضحة في حجم تأليب الرأي العام في تغريدات وزير الخارجية مثلا وفي بيانات وزارة الداخلية وفي تغطيات تلفزيون البحرين الرسمي، وفي المقالات الصادرة مضامينها في العادة من الديوان الملكي، كما في مقالات صحيفة “الوطن” مثلا.
٣- السجون السرية
قد يكون الحديث عن السجون السرية في البحرين مثيرا للدهشة بحكم صغر المساحة الجغرافية وسهولة معرفة المعتقلين وأماكن تواجدهم. إلا أن هناك عدة سجون أو مراكز تحقيق سرية، بمعني أنها تُدار بغير الطريقة الإدارية المعمول بها في الإدارة التابعة لها، كما في مركز أمن المحرق الذي تحول لوكر للتعذيب والاحتجاز المؤقت، وكما في سجن القرين الذي يعتبر الآن وفقا لبعض المعلومات البديل عن مركز التحقيقات الجنائية. ومن المؤشرات الدالة على وجود السجون السرية هو كثرة حالات الاختفاء القسري الذي يتفاوت بين عدة أيام إلى عدة شهور وعام.
٤- المؤسسات المحامية
ونقصد بها المؤسسات التي أوجدها النظام لحماية تصرفات أفراده وأعفائهم من الملاحقات القانونية، مثل مؤسسة التظلمات ومؤسسة مراقبة السجون ومؤسسات حقوق الإنسان الوكيلة، فهذه المؤسسات تقوم بدور مزدوج يجمع بين التستر على الانتهاكات من جهة والعمل على تعطيل الملاحقة القانونية للأفراد المنتهكين والمتورطين عمليا من جهة ثانية.
خاتمة المشهد
الخلاصة التي يمكن التأكيد عليها في نهاية المطاف؛ أن الانتهاكات والتعديات التي تحدث للقيادات والرموز السياسية المعتقلة في سجن جو، والتي تحدث لأكثر من ٤ آلاف معتقل آخرين؛ هي انتهاكات ممنهجة، ونتيجة للطبيعة الانتقامية المغروسة في بنية النظام السياسي وأجهزته الأمنية، كما إنها ذات صلة بالارتدادات الإقليمية، وفشل محور حلفاء النظام فيها. أما العنصر الأبرز هنا؛ فهو أن الطابع التكراري لتعديات والانتهاكات يمثل الترجمة الفعلية لتوجيهات تقديرية تضعها قيادات النظام العليا، وتوفر لها مساحات متعددة للتنفيذ والتطبيق العملي.