اختلافات المعارضة لا خلافاتها: أربع معضلات تهدر القدرة
البحرين اليوم – (خاص)
بقلم: باقر المشهدي
كاتب متخصص في شؤون الخليج
الفرق بين الاختلاف والخلاف لا يقع في التشكيلة الصوتية واختلاف المصدر الفعلي لكلا اللفظين فقط، وإنما هو خلاف مفاهيمي أساسا. فالاختلاف هو ما اتّحد في المقصد واختلف في الطريق إليه، والاختلاف يختلف فيه المقصد مع الطريق. الاختلاف حال طبيعة بين الناس وبين الفئات والجماعات، منشؤها تعدد زوايا النظر واستحالة الإحاطة بكل معطيات القضايا، وبالتالي فكل منظور يتعامل مع معطيات محددة يشكل على ضوئها رؤيته للأحداث وتفسيرها. ومن ثم؛ فإن تحديد الموقف العملي دائما ما يكون متعددا بتعدد المناظير وبتبابين القدرة على جمع المعلومات أو المعطيات. أما الخلاف فهو تبابين غير مستند لدليل، بل هو مجرد عناد وخروج لهوى أو ما شابه، لذلك فإن فالاختلاف يعبر عن موقف نفسي يصاحبه سلوك عملي يقوم على العداوة والكره، بل يصل إلى درجة الإقصاء ونصب العداء للآخر.
هذه القاعدة تزداد ضرورتها وأهميتها في المجال السياسي تحديدا، انطلاقا من أن العمل السياسي في غالبه قائم على تشخيص واقع متغير غير ثابت أساسا، وبالتالي فإن مقولة الصواب والخطأ في الرؤية السياسية تكاد تكون غير ذات جدوى. ولا يعني ذلك أن تكون إحدى الرؤى السياسية أكثر تماسكا وأكثر اقترابا من الواقع، لكنها في الوقت نفسه تتقاطع مع الرؤى الأخرى في مساحات مشتركة قد تضيق أو تتسع.
بعيدا عن الجرد النظري، نحتاج دائما إلى تذكير أنفسنا بهذه القاعدة ومراجعة الأداء السياسي الخاص بقوى المعارضة البحرانية بين فترة وأخرى من أجل تفادي الوقوع في دائرة الخلاف، ومن أجل توسيع دائرة المشتركات بين الرؤى وتكاملها إن لم نستطيع توحيدها. فتسوية اختلافات قوى المعارضة يجب أن يكون – وبصورة دائمة – محصورا في دائرة الاختلاف، ويجب منع تحويله إلى خلاف، وإلا فقدت كل الأطراف قوتها، وبدأت تدخل في مرحلة التفكك والتفتت السياسي والاجتماعي.
من هنا يصح أن نطرح السؤال المؤلم: لماذا هناك خلافات بين قوى المعارضة؟ ولماذا بين فترة وأخرى تتحول الاختلافات إلى خلافات؟
أحاول هنا استعراض أربعة أسباب يمكن إضافة أسباب أخرى إليها، وأعتقد أن الخروج بحلول منطقية وأخلاقية لهذه المعضلات الأربع كفيلة بأن تدفن خلافات قوى المعارضة وتبقي على اختلافاتها.
أولا : التربية الحزبية
من جملة الأسباب المفضية لتلك الحالة المرضية هي حالة التربية الحزبية والجماهيرية التي نشأ عليها الأفراد الذين تحولوا لاحقا إلى افراد فاعلين سياسيا. فهناك جزء من التربية الحزبية يقوم على تعظيم العصبية والتلاحم الحزبي والتنظيمي، حتى على حساب مبادئ التنظيم ومرجعتيه الدينية أو الفكرية. ولهذا، فإن الكثير من التنظيمات السياسية تفتقد لآليات فضّ النزاع، وإلى آليات قبول الرأي المخالف. وحتى وإن وُجد هذا الإطار؛ فإن الممارسة العملية تختلف تماما، ولهذا يتعرض التنظيم الحزبي لنوع من الاستنزاف التنظيمي الذي يتمثل في كثرة الانشقاقات أو كثرة الخارجين عنه لأسباب تتصل أساسا بمصادرة آرائهم.
ثانيا : مستوى الثقة في الآخرين
السبب الثاني أيضا هو تدني مستوى الثقة في الآخرين، وتزايد الثقة في النفس في الوقت نفسه، وهذا يجر الأفراد إلى تعظيم الذات وتحقير الآخرين. مظاهر هذا الخلل تتضح فيما يُعرف باحتكار الحقيقة،ونفي قدرة الاخرين على امتلاكها. الثقة في الرأي ووجهة النظر ضرورية لإنجاز العمل، لكنها قد تكون سلاحا وأداة خطيرة إذا ما كانت تعبر عن تكبُّر وغرور، وعن تصغير للآخرين ولآرائهم. المجال السياسي ليس طريقا مستويا، وليس عبارة عن كتلة مصمتة متجانسة، بل إن المجال السياسي متباين ومتعرج ومتفرع، وبالتالي لا يمكن لرأي أو رؤية سياسية أن تدعي احتكارها لطريق الحل، وأن تنفض الرأي الآخر بحجة أنه غير سياسي، ولا يتلاءم مع الواقع.
ثالثا: معايير الاختلاف وحدوده
أغلب القوى السياسية تعاني من مصادرة الرأي والحريات العامة من قبل الأجهزة الأمنية والسلطوية، وتطالب في المقابل بفسح المجال لحدود أوسع من التعبير عن الرأي وفقا لقواعد جديدة يتفق بشأنها بين أعضاء المجتمع. مع ذلك، فإن أغلب القوى السياسية تفتقد حتى الآن إلى برتوكول الاختلاف مع بعضها، وتفضل الاعتماد على المبادرات الشخصية في حل الاختلافات التي تصل حدّ الخلافات أحيانا، في الوقت الذي يجب عليها انجاز هذا الميثاق الأخلاقي الخاص بالتعبير والحريات العامة.
رابعا: غياب النقد وقبول الطعن
يمثل غياب النقد العلمي مجالا واسعا لممارسة نقيضه ألا وهو الطعن والفضح، وكأن الرأي الآخر باطل وضلال يجب التصدي له ومحوه. النقد العلمي يتعامل مع القضايا بمنظور مختلف تماما عن منظور الفضح والطعن، لأنه يستهدف تقييم الرأي ومعطياته دون أن يصل إلى محاكمة النوايا والنفوس، ولا يدخل في مجال التأويلات المشيطنة للآخر. ولهذا نرى دائما أن هناك مقالا ما ينتظر مقالا يرد عليه بعنف لفظي تارة وعنف رمزي تارة أخرى، ولكن نكاد نفتقد ردا علميا باردا منطقيا.
القائمة ربما تطول وربما يُضاف إليها أمثلة عديدة ومعضلات أخرى، لكنها دعوة لأن نعيد النظر في طرق إدارة الاختلافات بين قوى المعارضة ولنعيد مراجعة الأساليب التي تعاملت بها قوى المعارضة مع اختلافاتها أو مع مخالفيها، لنفهم أننا أمام مرحلة صعبة وشرسة جدا، وعلينا أن نحسن من فهمنا للمجريات الدائرة والأخطار المحدقة، فما يجمع قوى المعارضة أكثر وأكبر من ما يفرقها، والغريب أننا نضحي بالكثير من أجل القليل والضامر أصلا.
ختاما، على الفاعلين السياسيين أن يطورا من أدوات التواصل بينهم، واعتماد التواصل والتواضع أساسا في الاختلاف، وردعا للخلاف. يكفي تجارب الخلافات في تسعينات القرن الماضي وما قبله، ويكفي خلافات الألفية وما تلاها، يكفي وقودا لنار تحرق أبناء مجتمع مهدد في كل جوانبه وحياته.