إبراهيم شريف: الصمت ليس خيارا.. وكل الوقت مناسب لقول الحق
البحرين – متابعات
”في زمن تكميم الأفواه بمملكة الصمت؛ ثلاثة ينابيع للأمل: كلمات الصادمين كإبراهيم شريف، صرخة ودعاء من أم الشهيد، وهتاف الثوار يوميا”. (القيادي المعارض الدكتور سعيد الشهابي)
يمكن تسجيل أكثر من اختلاف مع القيادي في المعارضة البحرانية إبراهيم شريف، ولكن التجربة التي تمتد منذ فبراير ٢٠١١م وحتى اليوم؛ ترجّح الكفة لصالح الرجل الذي كان أول رئيس جمعية سياسية يظهر في الطرقات المحفوفة بالخطر والتي سلكها المواطنون وهم يكسرون الحصار على دوار اللؤلؤة ويفتحون به اليوم الأول من اعتصام الثورة الذي امتد قرابة الشهر قبل أن تتكالب قوات آل خليفة وآل سعود للانقضاض عليه والبدء في إطلاق أكبر موجة قمع واضطهاد تعرض لها البحرانيون وقياداتهم الدينية والسياسية، وبينهم شريف نفسه.
حُكم على إبراهيم شريف بالسجن ٥ سنوات. خلال الاعتقال لم يقدّم أية تنازلات كان يمكن أن يكون القليل منها “فرصة” لتخفيض الحكم أو أن يلغي العقوبة كلها. كان الخيار الأمثل لديه أن يكون بجوار رفاق دربه من قادة الثورة، وأن يأنس بهم ويأنسون به، وخاصة الأستاذ عبد الوهاب حسين الذي ربطتهما علاقة خاصة داخل الزنزانة. كان ذلك الاختبار الأول “الجدي” الذي فحص به الناسُ معدنَ الرجل الذي يعرفون أنه يختلف معهم في الأيديولوجيا وفي الخيارات السياسية وفي أسلوب معالجة “الأزمة”، ولكنهم لمسوا منه وفيه، ومنذ اعتصام الدّوار، القدرةَ الفائقة على تجسير الخلاف و”تعويمه”، وابتكار الخطاب السلس الذي يحتضن شباب الثورة ويقدِّرهم، ومن غير أن يستخفّ بشعاراتهم وأحلامهم القوية، وهو السبب ذاته الذي جعل كثيرين منهم يرون فيه قُربا ووفاءا لم يجدوا مثله لدى آخرين، وبينهم معارضون، كانوا حريصين على الوفاء لجمعياتهم وقياداتهم وخياراتهم السياسية أكثر من الاقتراب إلى الناس والتعلم منهم. قالها شريف بتواضع جم: إنني أتعلم من هؤلاء البسطاء.
الاختبار الأكثر “إثارة” كان بعد الإفراج عن شريف في ٢٠١٥م. بعد أقل من شهر، ارتقى منبرَ تأبين الشهيد حسام الحداد في المحرق، وألقى خطابا وصفه مراقبون بأنه “بيان تجديد الثورة”، وأكد فيه شريف بأن الثورة لم تمُت، وأنها قد تندلع من تحت الرماد في أيّ وقت، ووجّه السهام النافذة إلى فساد النظام واستبداده. كان ضريبة ذلك هو سنة أخرى في السجن.
ذاق شريف الطعم المر لاعتقال طويل وتعذيب لم يعرف الحدود، وحين تم إطلاق سراحه؛ ذاق طعم الحرية ومعنى أن تكون خارج الحديد والنار. ولكنه لم يكن كأيّ فرد يُعتقل ويُفرج عنه ويبدأ بعدها رحلة إعادة ترتيب حياته والتعويض عما فاته. لم يخرج شريف محمَّلا بالمعاناة الثقيلة التي تدعوه لمراجعة سيرته الأولى، والدخول في “بورصة” المراجعات التي يبشّر بها أولئك الذين لم يذوقوا المعاناة الكاملة، ويريدون أن يكف الناس عن التظاهر ويقبلوا بأقل الممكن وبأبخس العُروض. بين اعتقاله الأول والثاني؛ وجد شريف نفسه أمام “الضرورة التاريخية” التي تحتم على القيادي أن يُنجِز حضوره وتأثيره وموقفه من غير رتوش أو التفاف أو كثير من الترميز و”الحذر”. وهكذا دخل سجنه الثاني وهو على دراية بأن “الأمل” لا ينبغي أن يرتجف قيد لحظةٍ ولو اتسعت القيود وظلت أبواب السجون مفتوحة على الدوام.
لهذا السبب، وبعد خروجه من السجن الثاني، اتّسعت لدى شريف نافذة الأمل، وضاقت دائرةُ “الحذر”، ودخل أكثر فأكثر في وسط الحدث، وبين دهاليز الأرض المبتورة، وكان نشاطه الإلكتروني عبر حسابه في تويتر – الذي فتحه بعد خروجه ثانيا من السجن – موازيا لنشاطه بين الناس، وبوسائل تتغلب بالصميم على وسائل القمع والفتنة الرسمية.
حرص شريف على تثبيت وضوحه وهو يرسم مواقفه: “لن نستسلم، الشهداء تاج رؤوسنا، المعتقلون فخرنا وعزتنا، النظام ماض في تخبطه وجنونه، التهديد بالاعتقال لن يكتم الصمت أو يوقعنا في الارتجاف أو الإرجاف”. تلك هي سيرة شريف اليوم وهو يواجه الاتهام مجددا ب”التحريض على كراهية النظام والإزدراء به” بعد أن سجّل انتقادا – لم يجرؤ عليه أي معارض سياسي آخر في الداخل – لزيارة الأمير الإنجليزي الذي جاء مرتدا قبعة سمسار الأسلحة. قال شريف بأنه لا يعرف متى يعود – ثالثا – للسجن، ولكنه يقول بلسان واضح لا تعالي ولا استعلاء فيه: “أعرف جيدا أن الحرية موجودة داخلنا، لا يمليها عليا حاكم ولا قاض”، وهو – وكما يقتبس من كلام مارتن لوثر كنغ – ليس من أولئك الذين يقولون بأن “الوقت غير مناسب للكلام”، بل إن “الوقت دائما مناسب لقول الحق”. “الصمت ليس خيارا”، يقتبس شريف أيضا.
الناس اليوم، وفي ظل خطر الاعتقال المتجدد لشريف، مدعوون للعودة إلى كلماته المحفوظة، تلك الكلمات التي رأى فيها القيادي الذي لا يلين سعيد الشهابي بأنها تمثل أحد الأضلاع الثلاثة للأمل. العودة هنا ليست لأجل توجيه الشكر وإقامة التضامن مع شريف، ولكن لأجل الاستفادة من إحدى تجارب الثورة في العلاقة مع القيادات، ومعرفة أنْ خيارات شباب “اللؤلؤة” ليست في مرمى الطريق، أو أنها قصاصات ورق تتطاير مع الرياح.
يقول شريف بأنه “لا قيمة لنا لولا أننا نخدم أعز الناس وأكرمهم. شعب البحرين الطيب المعطاء المضحي البسيط المظلوم والصابر”. يريد أن يُخبرنا بأنه لا يخاطب الناس باعتباره قياديا، وأنه لا يجوز الاختلاف معه ومساءلته، والدخول معه في النقاشات المفتوحة. هو خادم للناس، وهذا يعني أنهم بينهم، ومتاح الوصول إليه، وليس غائبا أو راغبا في الجلوس فوق البروج العاجية. بوصلته، كما يكتب “تتجه نحو مصالح الضعفاء والمضطهدين الذين يحلمون بدولة عادلة”. يعرف أن دوره ليس فقط حفظ الحقوق، والانحياز للمضطهدين، وإدانة الانتهاكات.. ولكن أيضا اختراع السُّبل الكفيلة بقطع فتن النظام وحبائله. هكذا كان برنامج زيارة المجالس الحسينية في موسم عاشوراء الفائت، والذي أفسد نبتة الشر التي أراد الخليفيون زرعها، وهو البرنامج الذي لمِس الأشرار كيف أنه أصابهم في مقتل، وأحبط ما كان ينوونه من فتن دوّارة، فعبّروا عن انزعاجهم منه بوضوح وهددوا بملاحقة القائمين عليه، وعلى رأسهم شريف. وهكذا كان موقفه الصريح من حرب اليمن، ومن يوميات الناس ومحنهم، ومن كل دوائر الظلم التي تحيط بنا.
أيا كان ما يُجهَّز لشريف، فإنه يُعلن استعداده على الملأ للمزيد من “الاختبارات” وخوض المحن. يقول في ٥ نوفمبر ٢٠١٦م: “السجن والنفي والمنع من السفر؛ شهادة حسن سيرة وسلوك تمنحها الدولة للمعارضين الذين لا تنحني هاماتهم”. أي، مهما فعل النظام، فإن شريف يقول لمن يعنيه الأمر بأنه “لن” يتغير، وهو سيكون أكثر قوة ووضوحا في كل مرة يخرج فيها من المحنة، أو يعود إليها، طالت أم قُصرت.