أعراض “أم الدّيفان” في “رؤوس” النظام
على مدى خمسين يوماً، اشتعلَ في “رأس” النّظام شيءٌ يُذكّرنا بالمشهد الدّرامي لليلةِ القبض على فاطمة. علينا أن نمحوَ كلّ ما قاله ميشيل فوكو عن “الجنون”؛ ونحن نقف أمام هذا “الرأس” المخزي الذي لا يليق به أن يكون مجنوناً، أو الانتساب إلى ظواهر الذّهان. الشياطين التي تتحرّكُ في رأس هذه القبيلةِ ليست حقيقةً طبيعيّة، ولا ظاهرةً ثقافيّة، ولا تَرادَف لها مع أيّ مصطلح وردَ في سياق الجنون عند فوكو الذي قال إنّ “الجنون يغري، لأنه معرفة”. ما يتطايرُ في “رأس” النّظام ليس خفّةً في الإدراك، ولا اضطراباً نفسيّاً، ولا مروقاً قهريّاً على المعقولات. في أحوالِ المجانين؛ هناك التباسٌ بين الوعي واللا وعي، وثمّة تقاطع بين العبقريّة ومعارضة السّائد أو الخروج عليه. أمّا في حالِ النّظام عندنا؛ فليس هنالك إلاّ فظاعة عمياء من العقلِ القمعي، وسلسلة متقنة من العقاب المريض الذي يذهب إلى أعلى، وينزل إلى أسفل سافلين. إنّها، بلا شك، أعراض “أم الدّيفان”. وهذا تقريرٌ مكثّف عنها:
بعد يوم أو يومين من ثورة ١٤ فبراير ٢٠١١م؛ خرج “رأس” النّظامِ، وأعلن لجنةً لتقصّي “حقيقة” سقوط الشهيد علي مشيمع. بعد أيام قليلةٍ؛ حرّكَ هذا “الرأسُ” المرتزقةَ إلى دوّار اللؤلؤة للإنقضاض على المعتصمين فجراً وهم نيام. قبل “مجزرة الخميس”؛ يظهر “رأس” آخر صغير من النّظام ليفتح صفحةً جديدةً من الحوارِ، ويعلِنُ مغادرة الدّبابات من الشّوارع. النّاسُ يعتصمون في الدّوار، و”الرأسُ” يستعرضُ شيطانه على بدلته العسكريّة التي ظهر بها قبل المجزرة. بعد ثلاثة أسابيع، أو أقل، يفكّ الرأسُ شيطانَه من لجامها، وتبدأ ملامحمُ من البلطجةِ والزّعْرَنة في المدارس والجامعات، وتُرفَع راياتُ “الفاتح”، وتزغرد العجائزُ لقوات درع الجزيرة، ويقتحم الملثمون غرفَ العمليات في المستشفى، وينتشرُ المخبرون ورقّاصةُ الإعداماتِ في الوزارات وفي شاشةِ التلفزيون الأعور الذي فتحَ أبوابَه للخرّائين والبوّالين وآكلي الفتات. وبعد ثلاثة أشهر، أو أقل، من إعلاءِ المشانقِ، وإسقاط “الطِيْفان” على الرؤوس؛ يظهر اسم “بسيوني” على الملأ، ويبدأ الرأسُ بإخراج فقاعاتٍ صغيرة تفوح منها النتانة، ويهدأ الرّدحُ قليلاً، ويُعلِن البلطجيّة بأنهم يعانون من “التبوّل اللا إرادي”، وتنسابُ بعدها، مثل أيّام “الميثاق” المشؤوم؛ أحلامٌ عريضةٌ عن إنهاء “الأزمة”، واستعداد “الرأس” للذّهاب بسيارته إلى سترة، ليُرفَع من جديد على أكتافِ أهلها. ثلاثة أشهر، أو أكثر، يُعلَنُ عن “تقرير بسيوني”، وفي حضْرةِ “الرؤوس” كلّها. الشياطينُ كانت تتطاير منها مع كلِّ حرفٍ كان يقرأه “المحقّق” العجوز. بعد أيامٍ ثلاثة، أو أكثر، بدأت عروضٌ مسرحيّة جديدة، وتوالى النّظام في بيْع تذاكر “حوار التوافق الوطنيّ”. لم يطل الأمر كثيراً، وانفجر “الرأس” مجدّداً، وعاد القمعُ، والقهرُ، والقتل، وبخطىً أفظع. يهدأ الرأس قليلاً، ليُمرِّر عاصفة هنا أو هناك من الإدانات، أو لكي يُحْسنَ ضيافة بسيوني حين يزور البلاد، ثم يعود الرأسُ من جديدٍ إلى عادته الأولى. وهكذا دواليك، لا يغيّر النّظامُ رأسَه، ولا يبدّل إسْته، وإلى أن يأمر الرأسُ الأكبر المُصاب بالزهايمر بإيقافِ اللّعبةِ، وترْكِ الرؤوس الصّغيرة في النّظام لتعود إلى الأسفلِ، حيث تنبتُ الذيول، وتلعب لعبتها الأصليّة في التحرُّك يميناً وشمالاً، بلا قواعد انضباطيّة، ولا التزام بالأصول والفروع. هذه هي “أم الدّيفان”.
* أم الديفان: مصطلح شعبي، ويعني شدّة الهذيان والجنون.