أدوات الضبط في المؤسسة الشيعية..فاضل فتيل مثالا
البحرين اليوم – (خاص)
عباس الجمري
كاتب من البحرين
ليس اشتغال هذا المقال شخص “فاضل فتيل” أو إذكاء أوار الحملة ضده، إنما دائرة الاشتغال هنا تتلخص في محاولة قراءة الدوافع الثقافية والاجتماعية التي تغذي وتدفع هذه الحملات بشكل كبير ومتواصل، في هذا المقال أحاول فهم الطبيعة التي أدت لردة الفعل الشعبية تجاه زيارة وفد جمعية “هذه هي البحرين” إلى إسرائيل، واستقراء حدود الحملة واتساعها، وتركزها على شخص بعينه في مجموع الوفد. هذا الفهم قد يساعدنا في تفهم الاندفاع والتدافع الشعبي تجاه الشخصيات الدينية.
توطئة: يعتقد الناظر للحالة الحوزوية أن دخولها والخروج منها والتعمم فيها أمراً بسيطاً، لا يخضع لضوابط، وإذا ما أراد هذا الفهم أن يعطي أمثلة، فإنه يشير إلى عدد الفاشلين الذين آل بهم المآل إلى العمامة، وهذه النظرة “كسولة” تحتاج إلى شيء من الجهد لتحلل مدى فاعلية الجو الحوزوي في “ضبط” مريديه. والمفارقة أن أدوات الضبط في المؤسسة الشيعية أبعد من كونها امتحانات تقييم أو شهادة تعطى لتحكي عن حال الطالب، فهذه المؤسسة تعطي لكل رتبة مجموعة من الالتزامات “المتفق عليها لكنها غير مكتوبة” يلتزم بها صاحبها أيما إلتزام وإلا خرج تلقائياً من أطر الرتبة التي هو فيها، فمثلا، مرجع التقليد يحتاج أن يضبط أكثر من ثلاثة عشر علم موزعة على اللغة والفقه والأصول والعقليات، من ثم يباحث في تلك العلوم عدداً من السنين لتتنضج ملكة الاستنباط لديه، إلى جانب السيرة التقوائية والانضباط التبليغي، وكل ذلك يراكم في سيرة المجتهد قبل أن يكون مرجعاً، ويحتاجه إلى تكوين مؤهل ثقيل يجمع بين العلم والعمل والانضباط، ليتوج بعدها بشهادة من هم أعلم منه، وهذه الخاصية ليست موجودة في البعد الأكاديمي، إلا ربما في جامعة هارفارد وأكسفورد وكامبردج.
ولو تحدثنا عن الرتب الحوزوية الأقل، فهي الأخرى تخضع لضوابط معينة، فالمسألة ليست في لبس العمامة، فإمامة المسجد مثلا (وهي المهمة الأسهل في سيرة التبليغ الديني) تحتاج لسيرة نظيفة يتمتع بها إمام المسجد، وما أن يخدش الإمام سيرته بخطأ ما، يُستبعد تلقائياً عن هذه المهمة، فما بالك بالتبليغ فوق المنبر أو من فوق المنصات الدينية الأخرى.
وحتى العمامة التي يمكن أن يلبسها كل مجتاز للمقدمات وداخل في السطوح العلمية، فإنها تكون بلا قيمة إذا ما كان صاحبها متلبساً بسلوكيات أخلاقية أو فكرية مخالفة للرتم الذي مشت عليه الحوزة العلمية. وكتاب “منية المريد” للشيخ زين الدين بن علي العاملي المعروف بـ “الشهيد الثاني” (توفى 965 هـ)، كتاب يكشف عن مدى وعورة هذا المجال، وأن ليس كل معتمر للعمامة هو أهل للتقيد بأدوارها المناطة من قبل التعاليم الذي تعلمها الطالب.
هذه الحالة الانضباطية في الحوزة تسربت منذ أكثر من قرن في الوجدان الشيعي، فخلقت عند الفرد الشيعي العادي حالة من الغيرة على هذا الزي الديني، وفي المجموع خُلق في الوجدان الشيعة “ظاهرة تدافع اجتماعية” لضبط ومراقبة سلوك المعمم، وتتعزز هذه الظاهرة وتزداد حرارة إذا ما تعاضدت بكلام من كبار العلماء، وتنفجر إذا ما اقترنت بفتوى مرجع. والتدافع الاجتماعي بات يرقب كل شخصية دينية، حتى لو لم تكن حوزوية، فمعلم الصلاة في المسجد أو الرادود الحسيني أو غيرهما يخضعون للتقييمات الشديدة من قبل المجتمع، وإن كان بدرجات أقل من طالب العلوم الدينية ، تتناسب مع حجم الوظيفة الدينية.
في كتاب “منية المريد” المشار له، يركز الشيخ العاملي على مزاوجة العلم بالعمل بالأخلاق، ويعمّد منهجه الأخلاقي بأحاديث دينية من سيرة النبي وآله، يوقظ بها في نفس الطالب حالة من الاستنفار تجاه نفسه ومحيطه، وهذا الكتاب لا يقف عند حد دفتيه، بل إنه تعبير عن السمت الذي جُبلت عليه الحوزة من عصر المفيد حتى يومنا هذا، في المجموع، فإن ثمة منهج “صلب” يؤدي إلى ضبط الطالب الحوزوي، ويخلق لديه حالة من الحذر في القرارات الفردية خصوصا إذا ما تعانقت مع “السياسة”، وفي حالة فاضل فتيل، فإن الديني بالسياسي يمتزج، في قالب قومي ومصيري، فالقضية الفلسطينية محل إجماع تام عند الأمة (ما عدا الأنظمة)، ومعاداة “الكيان الصهيوني” هي كذلك كونه غاصباً، لذا؛ نرى أن الاستنفار الذي صاحب زيارة وفد جمعية “هذه هي البحرين” كان لافتاً، وخصوصاً في مشاركة “معمم” في الوفد، ومن المتوقع أن تتخذ إجراءات “اجتماعية” صارمة تجاه دور فتيل كرجل دين. خصوصا مع تلازمية تقربه للسلطة الخليفية والبحرين تعيش أزمة سياسية واقتصادية على أخف التعابير توصيفاً لحال البلاد.